wrapper

الجمعة 19 أبريل 2024

مختصرات :

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

 

نخطئ كثيراً عندما ننسى فلسطين التاريخية، الأرض العربية الفلسطينية، سوريا الجنوبية، البلاد التي سكنها العمالقة وعَمَّرَها اليبوسيون، الديار المقدسة التي فتحها عمر بن الخطاب، وعبر منها سيف الله المسلول خالد بن الوليد ودخلها داهية العرب عمرو بن العاص، وسكنها من بعدهم الصحابة الكرام ودفن فيها السلف الصالح،


وطهرها سيف الدين قطز، وحررها السلطان صلاح الدين الأيوبي، وسكنها العربُ الفلسطينيون،وعاش فيها المسلمون والمسيحون، يحملون معاً الهوية الفلسطينية، وينتمون إلى القومية العربية، وينطقون جميعاً باللغة العربية، ويدينون بالإسلام والمسيحية، وننشغل عنها كلها بمدينةٍ فيها أو بمحافظةٍ منها، وهي التي تشمل كل المحافظات وتحتضن كل المدن، ففيها القدس والرملة، وحيفا ويافا، والخليل ونابلس، وغزة والجليل، وبيسان والطيرة، والعفولة والخضيرة، والناصرة وقيسارية، وأم الفحم وبئر السبع، وعكا وطبريا، وصفد وصفورية، وغيرهم من مدن فلسطين التاريخية، وحواضرها القديمة، ومرافئها العتيدة، ومدنها العامرة.

فلسطينُ أكبرُ من غزةَ وأعظمُ من القدسِ

فلسطين هي الأم والوطن، وهي الأرض والهوية، وهي الشرف والكرامة، وهي الشهامة والأصالة، وهي الجبين والشامة، وهي الروح والقلب معاً، إليها تنتسب مدنها وينتمي أهلها، ومنها يأخذون المكانة ويحظون بالقدر والقيمة، وبها عن غيرهم يتميزون وبسببها يتقدمون ويبجلون، إذ لا قيمة لبقعةٍ من الأرض تنتزع من فلسطين وتنفصل عنها، ولا حياةَ لجزءٍ يقطع منها أو ينسلخ عنها، كما لا فضل لمدينةٍ على أخرى إلا بالنسب والانتماء، والتضحية والعطاء، والبذل والفداء، فهم سواءٌ يتساوون، وأترابٌ يتشابهون، وترابٌ بها يتقدس، وبقاعٌ بالانتماء إليها تتطهر، وهي جزءٌ من الأرض التي باركها الله عز وجل بين العريش والفرات، ولكنه جلّ شأنه خصها وحدها كلها بكل بقاعها بالتقديس.

لهذا فإننا نخطئ كثيراً عندما نعلي شأن بقعةٍ من ديارنا المقدسة أياً كانت فوق فلسطين، أو على حساب غيرها من أرضنا المباركة، ونعتقد بأنها قلب فلسطين النابض وعنوانها الثائر، وأنها إن كانت بخيرٍ فإن فلسطين كلها بخيرٍ، وإن أصابها مكروهٌ أو حلت بها مصيبة، فإن فلسطين كلها في كربٍ ومحنةٍ، وإن كان هذا الأمر صحيحٌ وإيجابي بمعناه العام الأخوي والتضامني، الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى"، إذ يُحزن فلسطين كلها ما يصيب غزة وما يلحق بها جراء العدوان والقصف الإسرائيلي، أو بسبب الحصار والتضييق الظالم المفروض عليه، كما يُحزن الأرض الفلسطينية كلها، ومعها بقاع العالم الإسلامي كله، ما يصيب مدينة القدس والمسجد الأقصى من تنكيلٍ وتدنيسٍ، واعتداءٍ وتخريبٍ، واقتحامٍ واستيلاءٍ، ولذلك فإنهم معهما يتضامنون، ولها يتداعون، وعليها يقلقون ويهتمون.

لا أقلل أبداً من شأن المدينتين العظيمتين ولا أحقر من نضالهما أو أستخف بمعاناتهما، فالقدس التي باركها الله عزو وجل وما حولها، المدينة العربية الفلسطينية الخالصة، عاصمة فلسطين وزهرة مدائن العرب والمسلمين، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعراجه إلى السماوات العلى، لكن ما قيمتها إن بقي العدو الإسرائيلي محتلاً لكل ما حولها، ومسيطراً على كل ما سواها، فحرية القدس تتحقق عندما تتحرر فلسطين، وطهرها يكون عندما نطرد المحتلين الغاصبين منها، وأصوات مآذنها وأجراس كنائسها تصدح عندما تعود فلسطين كلها من بحرها إلى نهرها إلى كنف الأمة العربية، حرةً كما كانت، وعزيزةً كما نتمنى.

أما قطاع غزة الذي إليه أنتمي وأنتسب، وبه أتشرف وأفتخر، إذ فيه ولدت وترعرعت، وفي مدارسه تعلمت وتخرجت، وفي دروبه نشأت ولعبت، وهو الشريط الممتد على طولٍ بالبحر المتوسط مسافةً تزيد قليلاً عن أربعين كيلو متراً، ويحمل اسم مدينته العريقة الموغلة في القدم، والضاربة في أعماق التاريخ الإنساني، وفيه يسكن مئات الآلاف من أبناء فلسطين التاريخية، وإن كان جلهم من نصفها الجنوبي وصحراء النقب، ففيه أهل يافا واللد والرملة، وأسدود والفالوجا والمسمية، وبئر السبع والنقب وعسقلان وغيرها من مدن وبلدات الساحل والصحراء.

وهو الذي أعطى الكثير وقدم العزيز من أبنائه ورجاله، وضحى بشبابه وأجياله، وصنع انتفاضة الحجارة الأولى وخاض مسيرة العودة الكبرى، وما زال يبدع كل يومٍ أسلحةً جديدة، ووسائل قتالية كثيرة، ويضرب للعالم بأسرة أمثولةً في المقاومة والنضال، ورغم ذلك لا ينبغي أن يقدم على بقية فلسطين، ولا أن يكون حصاره هو الأزمة، ومعاناته هي المحنة، إنما الأزمة هي الاحتلال، والمصيبة هي العدو الجاثم على صدر الوطن كله، جنوبه وقلبه وشماله.

لكنهما مع عظم مكانتهما المقدسة والنضالية، وكونهما أيقونةً شعبيةً وأمميةً، ورغم قيمتهما الرمزية والدينية العالية، وما لهما من مكانةٍ وأثرٍ بالغين في نفوس الفلسطينيين والعرب والمسلمين أجمعين، وفداحة ما يتعرضان له من ظلمٍ واضطهادٍ وبغيٍ وعدوانٍ، فإنه لا ينبغي أن تطغيا على فلسطين كلها، وأن يختصرا فلسطين في حدودهما، ولا يجوز أن نجعلهما فقط محط اهتمامنا وموضع قلقنا، فننسى بقية الأرض ونتهاون في باقي الوطن، ونهمل قضايا أخرى كالأسرى ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وتوسعها، ولا ينبغي أن يدفعنا مصابهما الجلل ووضعهما البئيس للتنازل في مكانٍ آخر والتفريط في جوانب أخرى، فالقدس وغزة كلتاهما مدينة محتلة، يطغى عليهما العدو الإسرائيلي ويبطش بهما سياسةً وحرباً، فَيُهَوِّدُ الأولى ويدنسها ويفتك بالثانية ويدمرها.

ٌ ذهبيةٌ في مليونية الأرض والعودة

كثيرةٌ هي انجازاتُ مسيرةِ العودة الوطنية على مدى عامٍ كاملٍ، وعظيمةٌ هي نتائجها على امتداد الوطن، التي ما كانت لتتحقق لولا الدماء والتضحيات، والجراح والصعاب، والمعاناة والألم، والقهر والغضب، والوجع والمرض، والجوع والفقر، فقد قدم سكان غزة الكثير على مذبح المسيرة، وأعطوا بسخاءٍ وضحوا بجودٍ وكرمٍ، وما بخلوا وما جبنوا، وما ضعفوا وما استكانوا، وما ملوا وما يأسوا، بل واجهوا سلطات الاحتلال بكل جرأةٍ وشجاعةٍ، وعزمٍ وإصرارٍ، ووعيٍ ويقينٍ، والتزموا طوال العام في كل فعالياتهم اليومية وفرق الإرباك الليلية بتعليمات وإرشادات قيادة الهيئة الوطنية لمسيرة العودة، وضربوا بالتزامهم بسياساتها العامة والضوابط المفترضة، أمثولةً رائعة في الوعي والالتزام، وفي الفهم والبصيرة، وأثبتوا للعدو والصديق معاً، أنهم صفٌ واحدٌ، كلمتهم واحدة، وقيادتهم مشتركة، وفعالياتهم منظمة، وجهودهم منسقة.

مسيرة مليونية الأرض والعودة التي توجت العام الأول من المسيرة، وخطت يومها الأول من عامها الثاني، لم تكن نسيج وحدها، ولم تختلف عن سابقاتها، بل تشابهت مع غيرها واتسقت مع سواها، ومضت على ذات النهج، وتطلعت إلى نفس الأهداف، وخاض غمارها الأهل أنفسهم، وأمَّها سكان القطاع كعادتهم، ولكن لأنها كانت تمثل قمة المسيرات الأسبوعية، فقد شكلت علامةً فارقةً كونها الذكرى السنوية الأولى، واستطاعت بسلميتها المقصودة والمعلنة أن توجه رسائل عديدة، وأن تؤسس لمفاهيم جديدة، وقد وزعت المسيرة رسائلها في كل الاتجاهات، ولم تستثنِ من مراسلتها أحداً، وبات على جميع المتلقين أن يعوا الدروس، وأن يفهموا المراد، وأن يحسنوا الرد عليها والتعامل معها.

أَمَّ مسيرة العودة في يوم الأرض حشودٌ ضخمةٌ جداً من المواطنين، وأعدادٌ غفيرةٌ من مختلف الفئات العمرية ومن الجنسين معاً، إذ لبى أغلب سكان قطاع غزة الدعوة إلى المشاركة، وجاؤوا من كل حدبٍ وصوبٍ إلى نقاط التجمع على امتداد الحدود الشرقية للقطاع، وجاء المقعدون والأصحاء، والأغنياء والفقراء، والموظفون والعمال، ورسموا بتلاوينهم المناطقية والحزبية والعمرية والاجتماعية أجمل صورةٍ لشعبٍ حرٍ ثائرٍ ينشد حريته، ويبحث عن كرامته، ويتطلع إلى عزته، وقد كانوا جميعاً على موعدٍ مع نداء الله أكبر لصلاة الظهر، لينطلقوا من بعد الصلاة أفواجاً وجماعاتٍ، وفرادى وزرافاتٍ، وقوافل ومجموعاتٍ، كلٌ إلى المكان المحدد، دون أن تسجل أي مخالفاتٍ، أو تظهر بينهم أي اختلافاتٍ، فقد كانوا يدركون أنهم اليوم محط أنظار العالم كله، الذين يرقبون مسيرتهم، ويتابعون حركتهم، ويرصدون ردود أفعالهم وينظرون بم يرجعون، الأمر الذي أصابهم بالذهول والصدمة لعظم المسيرة، وتزايد أعداد المشاركين فيها، وتدافعهم إليها ساعةً بعد أخرى.

غصت مليونية الأرض والعودة كبقية أيام الجمعة التي سبقت على مدار عامٍ كامل، بالصور الوطنية والمشاهد الشعبية، واللوحات الفولكلورية التي فاجأت الجميع بتنوعها وتعددها، إلا أن علم فلسطين قد ساد وانتشر، فلم تنافسه راية، ولم تزاحمه شارة حزبية أو فصائلية، بينما تنافس المشاركون، رجالاً ونساءً في إظهار إبداعاتهم وعرض ابتكاراتهم، فتعددت الصور والمشاهد، والألعاب والعروضات، والدروس والخطب، والكلمات والمحاضرات، والرسوم والمخطوطات، وغيرها من الفنون التي تبدي قدرة هذا الشعب العظيم على البقاء، وتبرز حبه للحياة، وسعيه الحثيث للعيش الكريم والحياة العزيزة، بعيداً عن ذل الحصار وجور الاحتلال.

أكد الفلسطينيون في مليونيتهم العتيدة أن مسيرة العودة توحد صفوفهم، وتجمع شعثهم، وترص صفوفهم، وتقوي عزمهم، وتجمل صورتهم، وتعزز مقاومتهم، وتظهرهم أمام أنفسهم وغيرهم، أنهم يستحقون الحرية ويستأهلون الحياة الحرة الكريمة العزيزة، فهم في المسيرة سواء، يتساوون ولا يتميزون، ويتماثلون ولا يختلفون، ويتفقون ولا يتناقضون، إلا أنهم يقدرون قيادتهم ويثقون في هيئتهم، ويمضون خلفهم جنوداً صادقين، وبذا يحسنون إعادة رسم صورة شعبهم، ويبدعون في عرض قضيتهم بصورةٍ لائقةٍ تبعث على التقدير والاحترام.

أثبت الفلسطينيون المجتمعون على صعيد الحدود الشرقية لقطاعهم المحاصر، إصرارهم على العودة إلى الوطن واستعادة الأرض، مهما كلفهم ذلك من ثمن، أو عرضهم إلى محنٍ، فهم أصحاب الحق وأهل الأرض، لن يفرطوا فيها ولن يساوموا عليها، ولن ينسوا حقوقهم فيها ولن يخونوا دماء شهدائهم عليها، فهم يذكرون ديارهم ويحفظون بلداتهم، ويرثون من آبائهم وأجدادهم مفاتيح بيوتهم، وعناوين دورهم وبساتينهم، ويحفظون وصية السابقين وأمل الراحلين بحفظ الأرض والتزام الوعد.

وقد بينت الأحداث ومسيرة العودة أنهم صُبُرٌ في الحرب وصُدُقٌ عند اللقاء، لا يردهم قتل، ولا يصدهم جيشٌ، ولا يمنعهم قناصةٌ أو غارةٌ، ولا يجدي معهم التهديد ولا ينفع عدوهم معهم الوعيد، وهم على العهد ماضون وعلى مسيرتهم يحافظون، يغذونها بالدماء، ويجددونها بالفعاليات، ويسلطون الأضواء عليها بالابتكارات، حتى تتحقق أهدافهم أو تتحرر أرضهم، وينتزعون حقوق شعبهم المشروعة، ويعودون جميعاً إلى ديارهم وأرضهم المسلوبة، وقد عقدوا العزم بمسيرتهم وأدواتهم النضالية الأخرى، أن يسقطوا كل المؤامرات التي تحاك ضد قطاعهم الحبيب، أو ضد القضية الفلسطينية عموماً، أياً كانت قوة المتآمرين ومكانتهم الدولية.

لعل الكيان الصهيوني ومعه الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، والعالم كله على وجه العموم، باتوا يدركون من هو الشعب الفلسطيني وماذا يريد، وما إذا كان على استعداد لتقديم المزيد والتضحية بالجديد، في سبيل حقه واستعادة وطنه، فهذه المسيرة الوطنية تعيد رسم الإنسان الفلسطيني ذي العزم والقوة، وصاحب العزة والهمة، المتطلع إلى الوطن والحرية، والمتفائل بالعودة والتحرير، والواثق بالنصر والتطهير، والموعود يقيناً باستعادة القدس والصلاة في المسجد الأقصى مهما طال الزمن وقوي العدو وقل أو ضعف النصير.

وعد الفلسطينيون بأن يشعلوا الأرض بركاناً فأشعلوها لهيباً، وتحدوا العدو أن تكون مسيرتهم مليونيةً وقد كانت كما أرادوا وأكثر، والتزموا بأن تكون سلميةً مدنيةً لا فعاليات خشنةً فيها ولا احتكاك مستفزٍ يتخللها، ولكن العدو غدر بهم وأساء إليهم، كعهده الغادر دوماً وطبيعته الكاذبة أبداً، فقد استهدف متظاهرين عمداً وقتل أربعةً قصداً، ورغم ذلك فلسان حال الفلسطينيين يقول لعدوهم أننا لن ننكسر أبداً، ولن نستسلم وعداً، وسننتصر عليك حتماً، فنحن أمةٌ موعودة بالنصر أو النصر، وشعب لا يعرف الهزيمة ولا يقبل بالفشل، ولا يقيم وزناً للضعف أو العجز، وقسماً بأن تنتصر غزة على محاصريها، وأن ينتقم أهلها من قاتليها، وأن يعود أبناؤها إلى ديارهم وبلداتهم.

الفلسطينيون في اللجوء والشتات بالتهدئة يرحبون

قلوب الفلسطينيين عموماً في دول اللجوء والشتات بردت، وضمائرهم هدأت، وخوفهم تبدد، وقلقهم تراجع، بعد تأكيد أنباء الاتفاق على الاقتصار في الذكرى السنوية الأولى لانطلاق مسيرات العودة، على الفعاليات السلمية الهادئة، والأنشطة الشعبية واللوحات الفولكلورية، في ظل إضرابٍ عامٍ سيشهده قطاع غزة، وستستجيب له كل القطاعات التعليمية والمهنية، والمؤسسات الحكومية والأهلية، ليتمكن المواطنون من جميع أنحاء القطاع منالمشاركة في الفعاليات السلمية المدنية، وينجحوا في تنظيم مسيرةٍ مليونية، يحتشد فيها جميع الفلسطينيين من كل الاتجاهات التنظيمية والمشارب السياسية، ويشكلوا صورةً ناصعةً وجميلة للشعب الفلسطيني الواحد الموحد.

الفلسطينيون في دول اللجوء القريب والشتات البعيد، الذين يتابعون أهلهم في قطاع غزة ويتضامنون معهم، ويتمنون أن يكونوا بينهم وأن يشاركوا مثلهم، فرحوا بما تم الاتفاق عليه بين الهئية الوطنية لمسيرة العودة والوسيط المصري، لاعتقادهم أن يوم السبت الذي تهيأ له الفلسطينيون مبكراً واستعدوا له كثيراً، سيكون بموجب هذا الاتفاق يوماً هادئاً، لن يشوبه عنف، ولن يسقط فيه شهداء، ولن يتعرض الفلسطينيون لإصاباتٍ خطيرةٍ، وإن كان سكان قطاع غزة سيخرجون في مسيرةٍ مليونيةٍ، وسيكون حراكاً حاشداً ويوماً مشهوداً، تشارك فيه كل القوى والفعاليات، ولكن بوسائل ناعمة، بعيداً عما يصفونه بالوسائل الخشنة، إذ عممت الهيئة الوطنية لمسيرة العودة وجوب الابتعاد عن السلك الشائك، وعدم الاقتراب من السياج الفاصل، وعدم القيام بأي أعمالٍ قد يفسرها العدو بأنها خشنة وتستدعي الرد بقوةٍ وحسمٍ.

يأمل الفلسطينيون أن تكون الهيئة الوطنية لمسيرة العودة قد نحت القناصة الإسرائيلية جانباً، وأخرست بنادقهم وعطلت مناظيرهم، وألزمت جنود الاحتلال الابتعاد عن السلك الشائك، ومنعتهم من استفزاز المتظاهرين أو الاقتراب منهم أو إطلاق النار عليهم، فضلاً عن أنها أجبرت سلطات الاحتلال على القبول بشروطهم، والموافقة على طلباتهم، المتعلقة برفع الحصار وفتح المعابر، وزيادة عدد الشاحنات، وإلغاء قوائم الممنوعات، وزيادة مسافة الصيد المسموحة، والسماح بدخول الأموال وزيادة حصة غزة من الكهرباء، ومنح أذونات تصدير منتجات قطاع غزة إلى الضفة الغربية، وغيرها من الشروط التي أصر عليها الفلسطينيون وتمسكوا بها، وكانوا من قبل قد خاضوا مسيرات العودة من أجلها وضحوا في سبيلها.

الفلسطينيون في الشتات الذين يضاهئون شعبهم في الداخل عدداً، ويبزونه قوةً وثباتاً، ويساوونه حقاً ويشاركونه وطناً، قد سكنهم الخوف كثيراً، وأعياهم الحزن أكثر، وحزَّ في نفوسهم العجزُ وأصابهم بالأسى اقتصار أدوارهم على المشاهدة والمتابعة، والتضامن والتأييد، وكان قد آلمهم ما يلقى أهلهم في قطاع غزة وما يكابدون من ويلاتٍ، على مدى سنةٍ كاملةٍ من عمر الحصار الممتد لأكثر من اثني عشر عاماً، وهي سنة مسيرات العودة الوطنية، التي التزم بها سكان قطاع غزة ودواموا عليها، ولكنهم رأوا من أهلهم رغم فداحة الضريبة وغزارة الدم، إقداماً عزَّ نظيره، واقتحاماً يشبه المغامرة، وانتصاراً ظنه البعض قديماً عزيزاً أو مستحيلاً.

هذا الموقف النبيل لشعبنا الفلسطيني في الشتات ليس جبناً ولا عجزاً، ولا هو هروبٌ من المعركة أو فرارٌ من المواجهة، إذ لو قدر لهم أن يكونوا إلى جانب أهلهم في الداخل، في مواجهة العدو وعلى جبهات القتال، فإنهم لن يقلوا عنهم قوةً وصلابةً، وعزماً وشدةً، وصبراً واحتمالاً، ومقاومةً وصموداً، وسيكونون في مواجهته رجالاً وفي مقاومته أبطالاً، ولن تقل صفحاتهم البطولية عن إخوانهم شرفاً وفخراً، وتاريخهم القديم يدل عليهم ويخبر عنهم، فقد حملوا قضيتهم وضحوا في سبيلها بالكثير.

لكن موقفهم هذا ينم عن حبٍ وحكمةٍ، وعن غيرةٍ وحرصٍ، وخوفٍ وقلقٍ، فقد رأوا العدو يستفرد بشعبهم ويقتلهم، ويبطش بهم ويحاصرهم، وقد قتل منهم على مدى عام المسيرة الوطنية الأول أكثر من 260 مواطناً، وأصاب بجراحٍ ما يربو على الستة عشر ألف فلسطيني بجراحٍ مختلفةٍ، منهم أكثر من مائة جريحٍ قد بترت أطرافهم، ورغم أنهم يثقون في قدرات شعبهم، ويطمئنون إلى ثباته وصبره، ويدركون بسالته وشجاعته، إلا أنهم لا يأمنون مكر العدو وغدره، ويخافون على شعبهم من طيشه وجوره، خاصةً أنه بات يتعرض كل يومٍ إلى ما يسيئه ويكشف عورته، ويضعف قوته، ويكسر هيبته، فتراه يتخبط بحثاً عما يرمم قوته، ويعيد الهيبة إلى جيشه، ويحقق التميز الذي كان يدعيه، والتفوق الذي كان يباهي به.

يرى الفلسطينيون في الشتات في مقاومة أهلهم في وطنهم وعلى أرضهم، صفحات شرفٍ ومواقف عزةٍ، يباهون بهم ويرفعون بمقاومتهم رؤوسهم، ويعتقدون أن هذه الأجيال المقاومة هي التي تمثلهم وتعبر عنهم، وأنها وجه الفلسطينيين الحقيقي، الذي يصنع بمقاومته الاحترام ويجلب التقدير، ويجعل لهذا الشعب العظيم بين الأمم مكانة، ويرغم العدو على القبول والتسليم، أو يوجعه بالهزيمة والفشل، ولهذا فإنهم إليه ينتسبون وبه يفتخرون، ويريدون المحافظة على هذه المقاومة ورجالها، إذ يخشون عليها من أن يتآمر عليها القريب والبعيد، وأن يستفرد بها العدو والغريب، أو أن يجتمع عليها الأشرار وينقلب عليها الأخوة والأصدقاء، وحينها تنكسر شوكتنا إن غابت مقاومتنا، وتضعف عزيمتنا إن قتل رجالنا.

الفلسطينيون في الشتات ليسوا بهذا الموقف وحدهم، بل إن قطاعاً كبيراً من الشعب الفلسطيني في الوطن معهم، يحمل وجهة نظرهم ويؤيدهم، ويدعو مثلهم للتهدئة وسحب فتيل الانفجار من عدوهم، وهذا التفكير لا سلبية فيه ولا عيب، فلا يتهم من فكر به ودعا إليه، ونتمنى ألا يتنطع أحدٌ ويشتد فينكسر أو يشتط فيضل، فيدفع أهله إلى الهاوية أكثر، أو يأخذهم إلى الانتحار أسرع، فالحكمة تقتضي أن نخفف عن أهلنا الذي أدماه الحصار وأوجعه الاحتلال، وأن نستجم من عناء المواجهة والقتال، وأن نستمتع باستراحة المحارب قبل أن نهب من جديدٍ، ونبدأ جولةً أخرى من المواجهة.

****

طالعوا الصفحة الإجتماعية للصحيفة و اشتركوا فيها إن كنتم من ناصري الكلمة الحرة و العدل:

: https://www.facebook.com/khelfaoui2/

@elfaycalnews

instagram: journalelfaycal

ـ  أو تبرعوا لفائدة الصحيفة من أجل استمرارها من خلال موقعها

www.elfaycal.com

- Pour visiter notre page FB,et s'abonner si vous faites partie des défendeurs de la liberté d'expression et la justice  cliquez sur ce lien: : https://www.facebook.com/khelfaoui2/

To visit our FB page, and subscribe if you are one of the defendants of freedom of expression and justice click on this link:  https://www.facebook.com/khelfaoui2/

Ou vous faites  un don pour aider notre continuité en allant  sur le site : www.elfaycal.com

Or you donate to help our continuity by going to the site:www.elfaycal.com

وسائط

أعمدة الفيصل

  • Prev
19 تشرين1/أكتوير 2023

حولنا

‫"‬ الفيصل‫"‬ ‫:‬ صحيفة دولية مزدوجة اللغة ‫(‬ عربي و فرنسي‫)‬ ‫..‬ وجودها معتمد على تفاعلكم  و تعاطيكم مع المشروع النبيل  في إطار حرية التعبير و تعميم المعلومة‫..‬ لمن يؤمن بمشروع راق و هادف ‫..‬ فنرحبُ بتبرعاتكم لمالية لتكبير و تحسين إمكانيات الصحيفة لتصبح منبرا له مكانته على الساحة الإعلامية‫.‬

‎لكل استفسارتكم و راسلوا الإدارة 

القائمة البريدية

إنضم إلى القائمة البريدية لتستقبل أحدث الأخبار

Faire un don

Vous pouvez aider votre journal et défendre la liberté d'expression, en faisant un don de libre choix: par cartes bancaires ou Paypal, en cliquant sur le lien de votre choix :