طباعة

*مقدير إبراهيمتبسة ـ الجزائر

 

ركنت القرية إلى صمت رهيب وهدوء غريب.. ما إن توارت الشمس وقت المغيب .وكانت تتوسد سفح جبل شاهق ،كل ما حوله مخيف مريب ..خلال سنوات عجاف اختلط فيه الحابل بالنابل وغم فيه بين الغث والسمين وبين الرخو والمتين ...إذ فُرض على الأهالي وقتها حظر التجول منذ مدة ليست بالقصيرة بسبب أوضاع البلاد الخطيرة ...كان الأب قد تجاوز من العقود أربعًا ...يجد في دكانه جوًّا عمليا ممتعا ..لكنه يغلق متجره منصاعًا بعد فريضة المغرب مطواعا ...

فغالبا ما تحدث في جنح الليل مطاردة لجماعة من اللصوص والمرتزقة المارقة بعد جريمة قتل أو سطو على متجر أو اقتحام وانتهاك حرمة بيت ...لم يتبين سكان القرية جهة أؤلئك الذين يغيرون بين الفينة والأخرى على أهالي القرية العزل . ولا حتى وجهتهم بعد كل غارة ينهبون فيها ويقتلون .. بل وصلت بهم الجرأة إلى الاختطاف حيث يتوارون .. .هذا الوضع المزري حتم على عقلاء القرية الاستنجاد بعناصر الدرك من مفرزة بالمدينة المجاورة ... وكان ذاك التوقيت الخاص بأهالي القرية إجراء احترازيا ..حتى ينجليّ ذاك الكابوس المرعب .. حيث يدوم من العاشرة ليلا إلى السادسة صباحا ... وبما أن التاجر أب لابنتين فقط فقد كان لزاما عليه أحيانا أن يوصد محله حتى قبل الغروب.... ليرافق إحدى ابنتيه أو كلتيهما إلى البيت في ظل ذاك الجو المشحون في القرية . ذات أمسية حالكة مظلمة باردة ..تأخر الأب في متجره ينظم بعض المنتوجات المعروضة... وهو منهمك في ترتيبها وتوظيبها بعناية ،دخل محلة ثلاثة أشخاص في ملابس شتوية ملثمين ، لا تظهر من ملامح وجوههم سوى أعين تطايرت منها شرارات وبدا منها الجور والإجرام ... تمالك نفسه قليلا ثم وقف خلف مكتبه حيث مصرفه ونقوده .. وقال في فزع مخفي : _تفضلوا.. أخرج أحدهم ورقة مكتوبة على جهتيها بها أغراض ومواد غذائية وجب عليه تحضيرها . وضعها فوق المكتب قائلا في غلظة : _لقد اختارتك الجماعة لأن تؤمن لها هذه المقتنيات ...وإن رفضت فستدفع إحدى ابنتيك الثمن ..وإياك أن تخبر تلك الفرقة اللعينة وذاك القائد النذل ...وانصرف ثلاثتهم إلى حيث أوكارهم .. اصفر وجه التاجر وكاد يغمى عليه خاصة بعد أن رأى أسلحتم تحت معاطفهم الطويلة...وبدأت ركبتاه تصطدمان وأسنانه تصطك فيما بينها .. .. ثم راح يتأمل تلك الورقة المكتوبة عن آخرها فحز في نفسه كثرة مطالبهم متذكرا في الآن ذاته تهديدهم ومتوقعا مصير أسرته إن أبى .. أغلق المتجر ثم أقفل مسرعا إلى بيته يحضن ابنتيه أكثر من ذي قبل ويئن حتى تفطنت عقيلته لحاله ...ولم يطب له في تلك الأمسية عشاء ولا راق له سمر مما أثار الريبة في الأنفس .. وحين أوى إلى مخدعه حدث حليلته في الخطب خلسة ...وظل كلاهما يبحث عن حل لما استجد على حين غرة .. 

قالت الأم بعد أخذ نفس عميق :

_ أرى أن تحضّر لهم طلباتهم لعلها تكون الأولى والأخيرة ...فإن ألحوا على غيرها فأخبر القائد ... كانت دورية الدرك تقيم حاجز تفتيش ومراقبة في مدخل القرية الوحيد ينتهي بعد العصر ثم يعوض بمخبرِين ليلا .. كانت أيام القرية تمر كوابيس مفزعة مرعبة لم تسلم منها حتى مفرزة الدرك .... وكل ليلة يرتقب سكانها قتيلا أو مخطوفا أو سبية ...وأهون الأمور محلاً مقتحما مجردا عن آخره ... مر أسبوع من ذاك .. 

في محله كان الكهل منهمكا ينظف ويرتب ويضع الأسعار ويزن ويصر .. وبين الفينة والأخرى يدخل زبون ليقتني منتوجا في لطف يكاد يهمس بما يبتغيه.... عاد ثلاثتهم في لباس مغاير قد كشفوا عن وجوههم وتخلوا عن أقنعتهم ...وخالفوا موعدهم يومها .. 

لكن التاجر عرفهم فلم ينبس بكلمة واحدة وأشار إلى أكياس وعلب محكمة التغليف ..

قال قائدهم في عنجهيته السالفة :

_ سنعود بعد أسبوع فحضّر لنا مبلغ كذا ...

وقع هذا الطلب على صاحب المحل كالصاعقة وفكر مليا في كبر المبلغ المطلوب ..وفي نفس الوقت تخيل مصير إحدى بناته وهي في قبضتهم .. وشى به أحد الجيران لما رآه من حركة مريبة لأولئك الثلاثة الغرباء الذين أخذوا من المتجر ما يملأ عربة رباعية الدفع وانصرفوا ...

ومن يومها وُضعً الكهل المسكين تحت المراقبة ودون علم منه راح يماطل تلك الشرذمة عله يتوصل معهم إلى حلٍ مرض .. وحين رأى منهم إصرارا ووعيدا وتهديدا لجأ إلى قائد تلك الدورية ليخبره عنهم .. وجد نفسه بين عشية وضحاها متّهما بدعمهم ومساندتهم وقد وقف ضده أكثر من شاهد .. بعدها أغلق محله وصودر رزقه واقتيد إلى المحاكمة ...ولم يكن له معين ولا سند في محنته تلك .. كان الحكم عليه جائرا مجحفا في حقه ووقع بين مطرقة السلطة وسندان المرتزقة .. 

فتردده في البدء لم يكن سوى خوف من مغبة اختطاف إحدى ابنتيه ... قضى سنوات في الأسر يناجي ربه بين القضبان أن يفرج همه ويكشف غمهأما ربة بيته فلم يكن أمامها بدٌ في تلك القرية المشؤومة سوى هجرها حيث احتمت بإخوتها في مدينة نائية ...ثمة وجدت الأسرة متنفسا وراحة وانزاح كابوس تلك الأيام الخوالي .. وبين الفينة والأخرى تجهد الأم نفسها وتزور صاحب عصمتها وتحدثه من وراء القضبان لتطمئنه على أحوال البنتين ..  وتزف إليه ذات مساء خبر نجاح البنت الكبرى في امتحان الباكا لوريا .. فذرف دموعا حارة وفي النفس نقيضان .... 

عبرات سالت على الخدين حين تصور أن البنت مخطوفة منتهَكة العرض مستباحة ..

وأخرى زينت حبوره حين سمع عنها متفوقة متألقة ناجحة... طمأن الحليلة في زيارتها تلك أنه سيُفرج عنه عما قريب لحسن سيرة وسلوك .. وأنه سيهجر تلك القرية حيث لا رجعة.. لما لاقاه من ظلم وجور في سنوات دفع الثمن خلالها أنينا ووحشة وبعدا عن الأسرة .. 

وكادت أن تُفرِّق الأسرة وتشتتها لولا لطف من خالقه ... أُطلِق سراح الرجل بعد أشهر فالتحق بأسرته وجدد نشاطه التجاري الذي يتقنه ولا تزال ذكرى تلك السنوات المريرة تقض مضجعه وتنغص عنه سكينته إلى حين.. 

 

ـــــــ

طالعوا الصفحة الإجتماعية للصحيفة و اشتركوا فيها إن كنتم من ناصري الكلمة الحرة و العدل:

: https://www.facebook.com/khelfaoui2/

@elfaycalnews

instagram: journalelfaycal

ـ  أو تبرعوا لفائدة الصحيفة من أجل استمرارها من خلال موقعها

www.elfaycal.com

- Pour visiter notre page FB,et s'abonner si vous faites partie des défendeurs de la liberté d'expression et la justice  cliquez sur ce lien: : https://www.facebook.com/khelfaoui2/

To visit our FB page, and subscribe if you are one of the defendants of freedom of expression and justice click on this link:  https://www.facebook.com/khelfaoui2/

Ou vous faites  un don pour aider notre continuité en allant  sur le site : www.elfaycal.com

Or you donate to help our continuity by going to the site:www.elfaycal.com

آخر تعديل على الخميس, 07 شباط/فبراير 2019

وسائط