wrapper

الخميس 25 أبريل 2024

مختصرات :

ـ بقلم: أحمد عثمان

*

تنتصب باسقةً شاهقةً في باحة الدار، لايدانيها ايٌ من أقرانها في الناحية، يعرفها القاصي والداني، تتراءى في الخلفية البديعة للقرية ـ حين نيمم نحو الحقول ـ وكأنها الملاك

الحارس الذي لايفتأ يرنو لدُورِها ويحنو عليها من علِ ..
إنها "الزغلولة" كما كان يسميها أبي رحمه الله، يكاد تاجها يلامس الشمس؛ كلما شخصت إليه ببصري من أسفلها، يغطي ظِله مساحة كبيرة من حوش دارنا الممتد، أتقنَّا حساب ساعات اليوم مع دوران هذا الظل .. لها في حياتنا نصيب وافر، فحولها كنا نمارس لهو طفولتنا الذي تسلَّم رايته صغارنا الأكثر شقاوة، وفي ظلها نستريح ونستروح، وكثيرًا مانتخذه مقِيلاً في أيام الصيف القائظة، وحين يطيب ثمرها ويشتد احمراره أمتطيها كما علَّمني أبي ـ فقد كان أبرع من يعتليها بشهادة الجميع ـ فأقطع أعذاقَها من العراجين وأُدليها بالحبل الذي أحمل .. بلحها كأقماع السكر، لايتذوَّقه أهل الدار قبل أن يصل إلى أفواه الجيران، وجيران الجيران ..
حكى لي أبي ـ رحمه الله ـ عن جَدِّي، عن جَدِّهِ، قال: أن جدنا الأكبر "إدريس" هو من جاء بفسيلتها وزرعها في هذا المكان؛ حين كان هذا البيت الكبيرـ في بدايته ـ حجرة واحدة ابتناها ليقيم فيها وجَدَّتُنا إلى جوار أغنامه وإبله .. لم يكن في ذاك الفضاء الشاسع وقتها غيره لسنين طالت، وكأنما فطِن إليها المترحِّلون بدوابهم؛ فأقاموا إلى جواره، وابتنوا مثلما ابتنى، ثم مالبث أن دب العمران في المكان .. ولأنه كان مرتفعًا بعض الشئ عما حوله؛ أسموه " العِلْواية"، وهو الاسم الذي التصق به واشتهرت به قريتنا التي تمددت وترامت أطرافُها ..
وحكى لي أبي ـ رحمه الله ـ عن جده، عن أجداده؛ فقال: أن هذه الأرض حول "العلواية" كانت قفرًا لاتزرع، استنفذت جهودًا شاقةً، وعرقًا سال أنهارًا،أفنت بشرًا وأعْمارًا لترويضها؛ حتى أتت طائعةً بأمر ربها تفيض بالخيرات كالتي بين أيديكم .. آنذاك كانت "الزغلولة" قد صارت شابةً يافعةً، والحُجرةَ قليلة البشر أضحت دارًا كبيرةً عامرةً بالأبناء والأحفاد .. فلما بشَّرت "العمَّةُ" بالثمر؛ استهدفها أولاد الجيرة بأحجارهم رجاء بُليْحاتٍ يشتهونها تسَّاقط عليهم .. فلما شُجت رأس عمي "عُمران" جراء حجرٍ مجهول؛ غضِب جدي غضبة الحليم، وعقد العزم؛ فرفع هذا السور عاليًا ليحمي الدار والنخلة ، ولأنه كان مُهابًا من الجميع، وفي الوقت ذاته محبوبًا منهم؛ فقد أصدر فرمانًا ـ مازال ساريًا حتى اليوم ـ أن لايتذوق أهل الدار ثمر " الزغلولة" قبل أن يصل خَراجُها لأهل الجيرة .. 
وكان مما علمني أبي ـ رحمه الله ـ كيف أُأبِّرُ شماريخها في موسم التلقيح، وكيف أرعاها حتى تفيض بالثمر .. ولأنه كان ذكيًا؛ رأيته وهو يلف جذعها القريب بشريط عريض من البلاستيك، فإذا ما حاولت الفئران الصعود نحو الثمر؛ فلاتستطيع أرجلها التشبث به؛ فتسقط وتفشل .. وهاأنذا مازلت أسير على خطاه .. ولكن ماأحزنني ـ في السنوات الأخيرة ـ أن محصول "الزغلولة" راح يتناقص عامُا بعد الآخر، حتى أننا كنا نعطي أهل الجيرة حقهم وقد لايتبقى لنا شئ منه؛ عملاُ بوصية جَدَّنا، وصوْنًا لإسم العائلة ومكانتها بين أهل القرية وقري المنطقة .. غلب على ظننا أنها قد هرِمت ولم تعد تقوى على الوفاء بحمل صباها وفُتوَّتِها .. رسَّخ هذا الظن في أذهاننا مالاحظناه من اصفرارٍ ثم جفافٍ أصاب بعض سعفاتها، ودموعٍ لزجةٍ تسيل على جسدها وكأنما تشتكي: "لم أعد أقوى"..
أما هذا الشتاء، فقد كانت قمة دهشتي وحزني .. شئ لم أره من قبل ، مايشبه نشارة الخشب يفترش محيط النخلة ..
ــ ياإلهي .. ماهذا .. من أين يأتي؟!
وكأنما انزعاجي قد سرى ـ كالعدوى ـ بين من حولي، فرأيت تباين الانفعالات على وجوههم ما بين حزن، ودهشة، وتساؤلات صامتة ... من بينهم جاءني صوته المكلوم :
ــ لماذا لانستدعي خبيرَا ياأخي؟ .. وكالغريق تلقفت القشة ..
ــ إفعل ماشئت يا "سالم"
دار الخبير حول الجذع، وجال فيه ببصره، ثم رنا إلى التاج الأخضر إلا من بعض السعفات وتمتم بصوت سمعناه: الحمد لله ..بعدها انحنى على الأرض يتفحص الإفرازات المتناثرة .. طلب سُلَّمًا، صعد درجاته .. كلما ارتقى واحدة يتوقف، يُعمل حواسه، يتلمس، يلاحظ، يتشمم، يُلْجأ أُذُنَه للجذع يتسمع ... هبط الدرج والأسى يكسو وجهه، يحملق في اللاشئ .. اجتاحتني قشعريرة خوف مماتشي به ملامحه .. تنهد عميقًا .. صمت هنيهة كأنها الدهر قبل أن يُفجِّرُ غضبه فينا:
ــ كيف أهملتموها كل هذا الوقت ؟
دارت عيناه بيننا ثم ثبتهما نحوي، تحملان كل آيات اللوم المكتوم .. لم أستطع أن أنبس ببنت شفة .. بعد لأيٍ خرج صوتي متقطعًا كحشرجة:
ــ خير ياباشمهندش؟
ــ ليس خيرًا حتى اللحظة .. نخلتكم مريضة وبشدة .. إن تركتموهما حتمًا ستموت ويسقط تاجها الأخضر .. اقتحمها السوس .. ألم تسمعوا نخْرَهُ؟! .. لابد من العلاج فورًا
لما جاء الفريق المُعالج ركبوا جذعها، أعملوا (المِثْقاب) في مواضع متفرقة منه، ثم دسُّوا الخراطيم فيما اخترموا، وبمحقنٍ كبيرٍ راح كبيرهم يدفع فيها الدواء .. تقاربت فترات العلاج في البداية، ثم تباعدت .. اعتدنا مع كل شمس أن نتحلق حولها، تتعلق أبصارنا وقلوبنا بتاجها الذى أوصانا الخبير بمتابعة اخضراره ..

آخر تعديل على السبت, 25 آذار/مارس 2017

وسائط

أعمدة الفيصل

  • Prev
19 تشرين1/أكتوير 2023

حولنا

‫"‬ الفيصل‫"‬ ‫:‬ صحيفة دولية مزدوجة اللغة ‫(‬ عربي و فرنسي‫)‬ ‫..‬ وجودها معتمد على تفاعلكم  و تعاطيكم مع المشروع النبيل  في إطار حرية التعبير و تعميم المعلومة‫..‬ لمن يؤمن بمشروع راق و هادف ‫..‬ فنرحبُ بتبرعاتكم لمالية لتكبير و تحسين إمكانيات الصحيفة لتصبح منبرا له مكانته على الساحة الإعلامية‫.‬

‎لكل استفسارتكم و راسلوا الإدارة 

القائمة البريدية

إنضم إلى القائمة البريدية لتستقبل أحدث الأخبار

Faire un don

Vous pouvez aider votre journal et défendre la liberté d'expression, en faisant un don de libre choix: par cartes bancaires ou Paypal, en cliquant sur le lien de votre choix :