"ألبير كامو": الغريب وفلسفة العدم ...

ليس الغريب غريب الأهل والوطن, بل هو غريب الوجود والكينونة, غريب يمشي على هذه الأرض بلا هدف.. فهو لا مبال في شيء حتى في نفسه. هذا ما أراد (ألبر كامو) أن يطرحه في روايته التي بعنوان: (الغريب) وهي من إصدار دار أسامة في دمشق.

الرواية مقسَّمة إلى فصلين يحملان العديد من العناوين. الفصل الأوَّل يبدأ بعنوان: وفاة الأم. تتدفق الأحداث بشكل ملحوظ منذ الصفحة الأولى فهي (كبسولة) من المشاهد المتلاحقة.

السيد (مورسو) يبلغه مدير عمله وفاة أمه, يأخذ إجازة ويذهب من أجل دفنها, حيث كانت تعيش في مأوى للعجزة. تظهر لا مبالاته بهذا الخبر, فهو متأفف من تلك الترتيبات التي ستفرض عليه, فكيف سيقضي الليل ساهراً قرب جثمان والدته, كما تتطلَّب العادة؟ ومن أين له القدرة على تحمُّل أولئك الأصدقاء الذين سيشاركونه السهرة قربها, وقد كانوا ملازمين لها منذ سنوات عدَّة خلت؟

تظهر بوادر اللامبالاة والاستهتار والتعب ممن حوله وخاصة عندما كان جالساً على شرفة منزله, فقد ملَّ النظر إلى الأرصفة, وهي محمَّلة بالناس والأضواء. نقتطف:

(عندئذ, فطنت إلى أنه ينبغي لي أن أتناول الطعام, وكنت قد أحسست بألم في عنقي بسبب اتكائي على ظهر الكرسي, فنزلت من المنزل لشراء الخبز وبعض الأطعمة, وأحضرت الطعام ثم أكلت, وأنا واقف.) ص33

تحت عنوان: التعرف إلى ماري. يتعرَّف إليها, وتنشأ بينهما علاقة ما, فهو لا يعرف إن كان يحبُّها أم لا, وقد أمضى معها أوقاتاً ممتعة في البحر.

وتتوالى هذه الحالة عندما دعاه جاره (سلامانو) إلى تناول الطعام, فقبل الدعوة حالاً كي يتخلَّص من تحضيره, فقد كان يريد سلق البطاطا فقط. وهذا يدلُّ على أنه غير مبال حتى فيما يأكل.

عنوان جديد: الحديث مع الجار. تبدو شخصيَّة (مورسو) ضبابيَّة ميَّالة إلى الغموض أحياناً في جانبها الفلسفي, فهي تعكس رؤية المؤلِّف فيما حوله فما هذه الامبالاة إلا لأنه ينظر إلى الكون على أنه قد خلق من العدم وكل شيء يتَّجه إلى العدم أيضاً لذلك تماهت شخصيته في هذه النظرة نحو الخلق.

فحين يجلس للاستماع إلى قصَّة الحب التي حدثت مع جاره (سلامانو) يبدو باهتاً لا مبالياً, تشوب أجوبته الملل فما هو بناصح إلا ما ندر.

العنوان الرابع: نزهة في البحر. ينطلق (مورسو) مع ماري وجاره سلامانو إلى البحر, فقد استضافهم (عمانوئيل) وهناك علَّمته (ماري) كيف يشرب الزبد وينفخه وهو مستلق فوق الماء.

علاقته مع (ماري) تطوَّرت أكثر تحت عنوان: طلب الزواج. من اللافت أنه لم يطلب هو الزواج بـ (ماري) بل هي من طلبت منه ذلك, فكانت إجابته: إذا كنتِ ترغبين في الزواج بي فأنا موافق, وإن كنتِ لا تريدين فلا مشكلة.

تحت عنوان: جريمة قتل. مورسو وماري وعمونائيل وريمون في نزهة بحرية. يتعرَّص ريمون إلى تحرُّش من شابين عربيين, ويحدث شجار معهما, ولكن عندما يعود (مورسو) إلى المكان نفسه, يجد أحد الشابين ويطلق عليه النار من المسدَّس الذي أعطاه إياه (ريمون). نقتطف:

(وهناك في الضجَّة الخافتة المصمة معاً, بدأ كل شيء. هززت العرق والشمس, وأدركت أنني أوقعت خللاً في توازن النهار, وفي صمت الساحل الخارق حيث شعرت بالسعادة, عندئذ أطلقت أربع طلقات أخرى على الجثَّة الهامدة التي غابت فيها الرصاصات دون أن يبدو عليها شيء, وكانت أشبع بأربع طلقات عاجلة مقتضبة أطرقها على باب الشقاء.) ص66

فأي سعادة تأتي من خلال قتل إنسان, وأي مشاعر باهتة تلك التي تنمو في داخل بطل الرواية, وهو يتابع إطلاق النار على الجثَّة الهامدة؟!

في القسم الثاني من الرواية يبدؤها الكاتب بعنوان: التحقيق في الجريمة.

لقد خضع (مورسو) إلى التحقيق في جريمة قتله ذلك الرجل حيث سجن, غير أنه لم يكن مبالياً بما فعل, حتى إنه لم يفكِّر في توكيل محام للدفاع عنه, ولولا أن قاضي التحقيق قد لفت نظره إلى أن المحكمة يمكن لها أن توكل محامياً عنه لم يكترث بالأمر لأن ما فعله من وجهة نظره لا يستحق الذكر أو الاهتمام, إنه أمر بسيط جداً.

لقد استفزَّت أجوبة (مورسو) قاضي التحقيق بشكل كبير, فاكتشف لا مبالاته وعدم إيمانه بالله حتى إنه جلب الصليب وراح يهزُّه أمام وجه (مورسو) وراح يصيح.. نقتطف:

(إن هذا مستحيل, وإن جميع الناس الذين يؤمنون بالله, حتى أولئك يهربون من وجهه..) ص76

عنوان جديد: (في السجن). يعرض الكاتب طريقة حياة (مورسو) في السجن, كيف بدا متضايقاً جداً من الضجيج أثناء زيارة (ماري) له, ولأوَّل مرَّة يشعر بالحب تجاهها. وقد كان لا يفكِّر فيها بشكل خاص, فهو يرسم للكثيرات من الفتيات اللواتي لا يعرفهن حالات معينة أثناء نومه.

في عنوان: (محكمة رقم (1) تزداد حالة اللامبالاة والاسنهتار بما حوله, حتى إنه يقاد إلى المحكمة من أجل التحقيق, وهو غير خائف. وقد تواردت إلى ذهنه طرفة مضحكة, لكنَّه أدرك أن ذلك خاطرة حمقاء.

وقد دهش عندما علم أن عدداً من الصحفيين قد جاؤوا لتغطية الخبر, وكاد يشكر الدركي لأنه أخبره عن الصحفي الفرنسي الذي سينقل الخبر عنه, بالإضافة إلى رجل آخر قتل أباه. ولكنه أدرك أخيراً أن ذلك أمر مضحك حقَّاً.

وفي الخاتمة يحاول (مورسو) إقناع نفسه بأن عليه الهدوء جراء حكم الإعدام الذي صدر بحقِّه نقتطف:

(كان ينبغي أيضاً أن أعمد إلى تحويل هذا الصراخ وإخضاعه إلى الصواب, وأن أكون طبيعياً حتى في هذا الافتراض الجديد, حتى يغدو تسليمي بمشيئة الله في الافتراض الأول محتملاً.) ص122

يسترسل الكاتب في سرد الأحداث المتلاحقة بشكل لافت, فلا هو مهتمّ بجمال السرد ولا بالتعابير الجذَّابة أو حتى عرض الصور البيانية اللافتة, كل همّه هو ترك الأحداث تتدحرج ككتلة الثلج لتظهر في النهاية فكرته الفلسفيَّة ونظرته نحو الوجود.

تتسم الرواية ببساطة الجمل وقصرها بشكل عام , وفيها شيء كبير من العجلة في تدفُّق الأحداث, ومع ذلك فهي غير مملَّة, لكن, تنقصها الحيوية لخلوِّها من جماليات الوصف إلا أنها محكمة جداً في السبك. فهي مميَّزة في موضوعها الذي لعب عليه الكاتب بأسلوب واضح مغرقاً الرواية بكثير من الفلسفة, وهذا الموضوع شبه نادر في الطرح الروائي بشكل عام. ومن الجدير بالذكر أن ننهي القول عن هذه الرواية كما قال (جان بول سارتر) عنها:

(ما من عبارة غير مفيدة, ما من عبارة إلا واستعيدت فيما بعد, وألقيت على بساط المناقشة. وعندما نغلق الكتاب ندرك أنه لم يكن بالإمكان أن يبدأ بصورة أخرى أو ينتهي نهاية أخرى. ص 157

رواية: الغريب.

المؤلِّف: ألبير كامو.

دار أسامة للنشر في دمشق.

****

روابط لتحميل الملحق الشهري العدد 14 ديسمبر 2019

https://pdf.lu/q0nV

https://www.fichier-pdf.fr/2020/01/02/----14--2019/

https://www.fichier-pdf.fr/2020/01/02/----14--2019/">Fichier PDF ملحق الفيصل الشهري العدد14ـ ديسمبر 2019 ».pdf</a>

‎طالعوا الصفحة الإجتماعية للصحيفة و اشتركوا فيها لنصرة الكلمة الحرة

‎لتحميل الملحق الشهري العدد 14 ديسمبر 2019

‎و مشاركته عبر التويتر أو الرسائل القصيرة هذا الرابط الخاص:

https://pdf.lu/q0nV