طباعة

*كتب : فريد بغداد | الجزائر

ذات ليلة كنت أغطّ في نوم عميق ؛ هو أشبه بالموت منه بالرقاد ، كنت أستمتع بموتي رغم أنّ الميّت لا يشعر و لا يحسّ أو هكذا يبدو لنا في عالم الحياة ، غير أنّ جمال النّوم لم يكن في غفوته و لا في سكونه و لا حتى في لذيذ أحلامه التي من فرط مفعول مخدّره الذي لم أتناوله أو أعاقره ؛


لم أشاهد في شاشة أحلامي غير سواد حالك يؤشّر على انقطاع البثّ من قناة الأحلام الفضائية و يحيل على أيّام " المحتّمة " أو اليتيمة كما هو إسم شهرتها ، لقد كان ذلك الجمال في نسياني أنّني حيّ مع قائمة الهموم التي لا تعدّ و لا تحصى و لا تنتهي ، فلا أكاد أرتاح من بعضها حتى تنبت أخرى ، تماما كما الفطريات .
و في لحظة مأساويّة طرقت أذناي مطارق صوت جهوريّ لا يكلّ و لا يملّ و لا يخجل و لا يستحي على دمه ؛ أسامة ... أسامة ... أسامة ... ، هكذا نادى ذلك الشّاب على صديقه في منتصف ليلة تمنّيت أن صوت فيروز لم يقطعها فضلا عن أن يكّدر صفوها هذا الصّوت الغليظ المنكر ، حاولت أن أستجمع ما تبقّى في دمي من مخدّر رقادي ، وضعت وسادة على أذنّي عسى أن أصمّهما فلا يسمعا شيئا و يُخمدا دماغي الذي بعثه من مرقده دويّ ذلك النّداء الهادر ، عبثا أحاول ، لقد طار النّعاس و فارقت مقلتيَّ أجملُ غفوة أنستني متاعب الحياة و منغّصات الدّخول المدرسي و لوازمه و ملابسه و مستحقّاته .
لم يكد عيد الأضحى يُضحّي بما بقي في جيبي من دريهمات حتّى فجع الفؤادَ مقدمُ سبتمبر ، صدق ذلك الفلسطيني الذي سمّى حادثة وقعت في سبتمبر 1970 بين منظمة التحرير الفلسطينية اللاّجئة في الأردن و القوات المسلحة الأردنية " أيلولَ الأسود " ، حقّا إنّه أسود و مشؤوم ، لا يرتاح و لا يرحل عنّا فيريحنا حتى يأكل الأخضر و اليابس ، فإذا كان سبتمبر قد هجّر الفلسطينيين اللاجئين في الأردن إلى لبنان فقد هجّرني من واقعي الكئيب إلى نومةٍ كأنّها موتة .
لا تزال ذكرى خروفتي المسكينة ، لست أدري من المسكين أنا أم هي ، التي سقطت من شرفة منزلي حينما أرادت أن تفرّ من قدر السّكين إلى قدر بلاط الرّصيف مؤثرة أن تصدمه على أن يحتزّ عنقها خنجري الغادر ؛ عالقةً في ذهني و لم أنسها بعد ، و بيتي الذي بات بلا كهرباء و لا غاز و لا ماء بعدما صادرت مؤسسات التّوزيع عدّاداتها عقوبة لي لعدم سداد مستحقاتها ، و البقّال و الجزّار اللّذان صرت ألعب معهما لعبة الغمّيضة و المطاردة كلّما مررت من قدام محلّيهما نسيانا ، متماطلا و مسوِّفاً في دفع ما يدينان به لي .
أطلّ أسامة من نافذة منزلهم يتثاءب بصوت أعجمي ًّ لا تكاد تستبين معناه إلا بعد معاناة ، مبدّدا سكون تلك اللّيلة الوادعة الهادئة ؛ مجيبا صاحبه : " سألبس و أنزل ؛ انتظرني " ، تبّا لهذا الشاب ، لا يحلو له أن يوقظ أسامة هذا حتّى يستيقظ معه حيّ بأكمله ، لا يهدأ بالُه حتّى يتذكّرَ سكان الحيّ مآسيَهم مع الدّخول المدرسي فيُؤرِّق أجفانهم و يُسهِّد مآقيهم ، فتعودَ تلك الحياة البائسة إلى أجسادهم التّي أمضَّها طولُ التّفكير في تدبير نقود الدّخول المدرسي ؛ تسري في عروقهم و تخِزُ أعصابهم كأنّها إبر العقارب .
و بعدما استيأست من عودة ذلك الموت السّريري الحالم ؛ أخذ الفضول يدغدغ عقلي و يعبث ببطين قلبيَ الأيسر و أذينِه الأيمن ، فتوجّهت تلقاء الناّفذة أفتحها لأرى صديق أسامة الذي أطار نومي و أبدَله بأرق مُقضٍّ للهواجع و مقلِّبٍ للمواجع ، أبصرت فوجدت بعض النّوافذ يصدر منها ضوء منازلها و كثير منها يُطلّ منها أصحابها و غرفُها مظلمة فارتحت حينما أدركت أنّني لست وحدي من فصلت مؤسسة الكهرباء عدّادها عن منزله .
لقد أيقنت أنّ الحيّ كلّه يستمع و يراقب ذلك الشّاب المشاغب صاحب أسامة ، كان المراهقان يتخافتان و يتناجيان ، و لا يكاد أحد من سكان الحيّ يسمع حوارهما حتّى من النّافذة القريبة منهما ، و فجأة صرخ أسامة في وجه زميله : إسمع يا كمال ، لو اضطرني الأمر إلى دخول المدرسة حافي القدمين يوم الأربعاء المقبل خير لي من أن أنتعل ذاك الحذاء الرّياضي الرخيص الذي اشتراه لي أبي بثلاثة ملايين فقط ، بينما كنت ألحّ عليه أن يشتري لي ذلك الحذاء الذي أرغب به بخمسة ملايين .
الويل لأسامة لقد أفسد صبيان المدينة كلِّها على أوليائهم ، و أنا الذي كنت قبل وفاتي اللّيلة أفكّر كيف أُقنع إبني المحروس أن يقبل منّي مليون ليشتري سروالا و قميصا و حذاءً و أدواتٍ مدرسيّة بما تبقّى له من صرف ، رغم أنّني على قناعة فولاذية بأنّه لن يستطيع أن يؤَمِّن له نصف الأغراض ، لكنّني مع ذلك عاندت قناعاتي لعلّي أُفلت من نزوات أكبر أبنائي ، فأخواه الصّغيران مقدورٌ عليهما و سهلٌ إرضاؤهما ، المسكينان لم يجتازا السّنة الرابعة بعد .
ليت وزيرة التربية تتذكّرنا نحن أولياء التّلاميذ في بداية هذا العام فتخصّص درسا موحّدا يتحدث عن معاناة الآباء و مكابدتهم شظف العيش من أجل تأمين اللّقمة و الملبس و الأدوات لعلّ أبناءهم يشعرون بهم فيكفّون عن طلباتهم المكلفة ، إنّ موضوعا كهذا لا يقلّ أهميّة عن مواضيع التّاريخ فنحن أيضا في جهاد ، أو مواضيع المحافظة على البيئة فالحفاظ علينا أولى ، أم تراها تريد أن تفتتح السّنة الدراسيّة بموضوع عن النّظافة و مرض الكوليرا ، ألهذا الحدّ صرنا أقلّ شأنا من الكوليرا .
قصّة خيالية قد تحدث مع أيّ " زوالي " .*1
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*‫1ـ فقير أو محدود الدخل‬

****

‎طالعوا الصفحة الإجتماعية للصحيفة و اشتركوا فيها إن كنتم من ناصري الكلمة الحرة و العدل:
‏: https://www.facebook.com/khelfaoui2/
‪‪@elfaycalnews‬‬

instagram: journalelfaycal

- Pour visiter notre page FB,et s'abonner si vous faites partie des défendeurs de la liberté d'expression et la justice cliquez sur ce lien:

وسائط