wrapper

الأربعاء 15 ماي 2024

مختصرات :

بقلم: الدكتور يسري عبد الغني | مصر

هل يمكن قراءة الكتب المقدسة في ضوء المقاربة التفكيكية؟
يمكن لنا قراءة القرآن نصا وخطابا وكتابا في ضوء المقاربات العلمية والموضوعية كالبنيوية اللسانية والسيميوطيقا والهيرمونيطيقا القائمة على التأويل. لكن هل يمكن قراءة القرآن اعتمادا على التفكيكية بالمفهوم الدريدي؟ في اعتقادي، لا يمكن إطلاقا دراسة القرآن انطلاقا من المنهجية التفكيكية تشريحا واختلافا. لأن القرآن يحوي حقائق وبنيات عقائدية وتشريعية ثابتة، من الصعب الطعن فيها لقدسيتها الربانية، كما أن ما ورد في القرآن الكريم يقيني وثابت ومحكم، لا يمكن التشكيك فيه بأي حال من الأحوال. 
فعلا، يمكن تفكيك القرآن بنيويا وسيميائيا من أجل معرفة البنيات السردية أو المنطقية التي تتحكم في توليد الآيات القرآنية أو دراسة قصص القرآن الكريم قراءة سيميائية لمعرفة الثوابت التكوينية في تلك القصص السردية. لكن يستحيل تطبيق التفكيك بمفهوم جاك ديريدا؛لأن منهجية ديريدا التفكيكية قائمة على الهدم والتقويض والتشكيك، وتعرية السائد، وفضح الإيديولوجيا، والثورة على الانسجام. في حين، نجد القرآن الكريم خطابا متجانسا في آياته وأحكامه التشريعية، و لا علاقة له بالإيديولوجيا لا من قريب ولا من بعيد. علاوة على ذلك، فالتفكيكية تعمد إلى الهدم والثورة والرفض، ونقد المقولات المركزية في الفكر الغربي بصفة خاصة، والفكر العالمي بصفة عامة كاللغة، والعقل، والتاريخ، والعرق، والصوت...وغيرها من المقولات التي تمثلها الفكر الإنساني. أما القرآن، فيتسم بالانسجام والاتساق والإعجاز، والدعوة إلى استخدام العقل لمعرفة الله، وتعمير الدنيا. كما أن القرآن ليس فكرا بشريا لتعريته، وليس إيديولوجيا بشرية أو سياسية للإطاحة بها، ونقدها تفكيكا وتشريحا. علاوة على ذلك، ترفض فلسفة ديريدا التفكيكية بشكل مطلق كل التعارضات والثنائيات الزوجية: الروح والجسد، والعقل والمادة، والحياة والموت... في حين، ينبني القرآن الكريم على مجموعة من الثنائيات المتقابلة، كالليل والنهار، والحياة والموت، والمذكر والمؤنث، والعلم والجهل، والسعادة والشقاء، والجنة والجحيم...
أضف إلى ذلك أن فلسفة ديريدا هي فلسفة التقويض، والفوضى، والهدم، وإشاعة السلبية، وإثارة نزعات الصراع والاختلاف. ومن ثم، فالقرآن الكريم بعيد كل البعد عن هذا، فهو كتاب ديني مقدس، يهدف إلى ترقية الإنسان ماديا وروحيا، والسمو به بشريا وأخلاقيا ونفسيا، وهدايته إلى السبيل الصحيح للفوز بالدنيا والآخرة.أي: إنه كتاب عقدي إيجابي في خدمة الإنسان، والحفاظ على الفرد والجماعة، ضمن نظام مجتمعي ثابت قوامه الاحتكام إلى الشريعة الربانية. وبالتالي، فالقرآن ضد الاختلاف من أجل الاختلاف، أو إثارة الفتنة والغواية والشقاق بين طبقات المجتمع.
علاوة على ذلك، لا يقبل القرآن الفلسفة السلبية القائمة على العدمية، والنسبية المطلقة، والرفض لماهو ثابت ويقيني.
وما يمكن قوله عن القرآن، يمكن قوله عن الكتب المقدسة الأخرى كالتوراة والإنجيل، فحينما تحارب التفكيكية المنطوق الصوتي، والوحدة والانسجام والنظام والثبات والمركز، فهي في الحقيقة تحارب عقيدة التوحيد، ولا تعلم أن هذا الكون المنظم له رب خبير عليم. وفي هذا الصدد، يقول ديفيد كارتر(David Carter):"ظهرت البوادر الأولى لهذه الثورة التفكيكية في مقالة قدمها ديريدا في جامعة جونز هوبكنز في أمريكا في عام 1966م بعنوان( البنية والعلامة واللهو في خطاب العلوم الإنسانية). وللتعبير عما كان ثوريا فيها باختصار، فقد برهن ديريدا بأنه حتى البنيوية تفترض وجود مركز للمعنى من نوع ما، كما يفترض الأفراد مركزية ضمير " أنا" في وعيهم، ويضمن هذا المركز الشعور بوحدة الوجود. ولكن بالنسبة لديريدا أدت التطورات في الفكر الغربي حتما إلى عملية التهميش. تقليديا كانت هناك دائما عمليات تمركز أو تمحور: الوجود، والنفس، والجوهر، والله، إلخ. وهذه الحاجة الإنسانية سماها ديريدا مركزية المعنى. وهذا مستمد من استخدام العهد الجديد لمصطلح علامة (التي تعني في اليونانية كلمة) للتعبير عن اعتقاد المسيحية بأن السبب الرئيس لجميع الأمور هو كلمة الله:" في البداية كانت الكلمة". ومن ثم، في مركزية المعنى تكون الكلمة المنطوقة أقرب إلى الفكر من الكلمة المكتوبة. يسمي ديريدا ذلك مركزية الصوت التي تفترض دائما وجود النفس. عندما نسمع الكلام، فإننا نفترض وجود المتحدث. ولانفعل الشيء نفسه في الوجود الكتابي عندما نقرأ الكتابة. وبهذه الطريقة، تتيح الكتابة لنفسها مجالا للتفسير، وإعادة التفسير؛ لأننا نستطيع أن نعيد القراءة والتحليل بسهولة أكبر." 
وهكذا، يتبادر إلى أذهاننا أن التفكيكية، باعتبارها مقاربة فلسفية تقويضية، تتعارض مع الكتب المقدسة جميعها، تلك الكتب التي أعطت أهمية كبرى للدال الصوتي بيانا وفصاحة وبلاغة، تلك الكتب التي تؤمن بالنظام الرباني المنسجم، وتؤكد تناسق هذا الكون بإرجاعه إلى عظمة الله وقدرته الخارقة. والهدف من خلق الإنسان، واستخلافه في الأرض، هو تعمير الكون، والجمع بين العبادة والعمل. ومن ثم، فالبناء هو الأساس في سنة الحياة، أما التقويض فهو النشاز والشذوذ والغرابة.

وسائط

أعمدة الفيصل

  • Prev
19 تشرين1/أكتوير 2023

حولنا

‫"‬ الفيصل‫"‬ ‫:‬ صحيفة دولية مزدوجة اللغة ‫(‬ عربي و فرنسي‫)‬ ‫..‬ وجودها معتمد على تفاعلكم  و تعاطيكم مع المشروع النبيل  في إطار حرية التعبير و تعميم المعلومة‫..‬ لمن يؤمن بمشروع راق و هادف ‫..‬ فنرحبُ بتبرعاتكم لمالية لتكبير و تحسين إمكانيات الصحيفة لتصبح منبرا له مكانته على الساحة الإعلامية‫.‬

‎لكل استفسارتكم و راسلوا الإدارة 

القائمة البريدية

إنضم إلى القائمة البريدية لتستقبل أحدث الأخبار

Faire un don

Vous pouvez aider votre journal et défendre la liberté d'expression, en faisant un don de libre choix: par cartes bancaires ou Paypal, en cliquant sur le lien de votre choix :