wrapper

الجمعة 26 أبريل 2024

مختصرات :

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي


كعادتهم هم العرب، أهل الجود والسخاء والكرم، سادوا برمادهم، وسموا بعلو كعبهم، وعرفوا بهشيم خبزهم، واشتهروا بطيب ثريدهم، وتشاركوا بكثير مرقهم، وكذا الفلسطينيون الصِيْدُ الأباةُ أهلُ المروءة والشهامة والشرف، الأصلاءُ النبلاءُ النجباء أصحاب النخوة ورجال العسرةِ، يشعلون نارهم ليستدل عليهم العابرون في الليل والسراة في الفجرِ، ويفتحون أبوابهم لكل ضيفٍ

وعابر سبيل، ويبشون في وجوه الغرباء والوافدين، ويكرمون ضيوفهم ويحسنون استقبالهم، ويخصونهم من بيوتهم غرفاً، ويعطونهم من أرضهم سكناً، ويمدون يد العون لكل محتاجٍ، ولا يفرقون في العطاء بين الغريب والنسيب، أو القريب والبعيد، ويجيرون في حماهم كل من استجار بهم وطلب النصرة وتطلع إلى الحماية، وتمنى السلامة وبحث عن الأمان، ليعيش بينهم ومعهم مطمئناً في أهله، وآمناً في سربه، ومالكاً لقوت يومه وغده.
 
بهذا الأخلاق العالية والقيم الرفيعة والمعاني النبيلة، استقبل العربُ الفلسطينيون في العام 1880 بعض اليهود الفارين من الظلم في أوروبا، والهاربين من الاضطهاد الذي يلاحقهم والتمييز الذي يؤلمهم، فأكرموهم وأحسنوا إليهم، وأمَّنوهم وساعدوهم، ومنحوهم الأمان الذي كانوا يبحثون عنه، والاستقرار الذي حرموا منه، رغم أن الأخبار التي كانت ترد إلى العرب من أوروبا، أن اليهود أساؤوا فيها وأفسدوا، وفتنوا سكانها بمالهم وتجارتهم، وأغرقوهم بالديون وشددوا عليهم بالفوائد، وعزلوا أنفسهم عن محيطهم الذي كان يشكو منهم ويتألم، نتيجة سلوكهم اليومي وقذارتهم الشخصية وعيوبهم الاجتماعية، وأساطيرهم الدينية وطقوسهم الغريبة.
 
إلا أن العرب الفلسطينيين لم يصغوا للشكوى الأوروبية، ولم يصدقوا روايتهم الشعبية، وأصروا التزاماً بأخلاقهم وانسجاماً مع قيمهم، على استقبال الوافدين اليهود، الذين استجاروا بهم ولجأوا إليهم، ورأوا عدم طردهم أو التخلي عنهم، رغم سوء السمعة التي تسبقهم، وكثرة الروايات التي تفضحهم، إذ ما اعتاد العرب في حياتهم أن يغلقوا الأبواب في وجه طارقٍ، أو أن يصدوا مستجيراً ويسلموا معاهداً، أو يصموا آذانهم عن صوت ملهوفٍ ضعيفٍ، يطلب النصرة ويستجدي المساعدة، ولو لم يكن من بلادهم أو من بني ملتهم، فهم على هذه الأخلاق نشأوا، ومن آبائهم تعلموا، وعن أجدادهم ورثوا.
 
كان ممن وصل إلى فلسطين من اليهود الفارين من أوروبا، جماعةٌ من اليهود وصلت إلى مدينة القدس، على رأسها يوسف بن رحاميم، وقد كانت مدينةً عامرةً رحبةً، حاضرة البلاد وزهرة مدائن المسلمين، تعيش الرخاء والسخاء، ولا تعاني من ضيقٍ أو جوعٍ، بل يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، يحمله إليها التجارُ والزوار، والحجاج والمصلون، الذين يرون في مدينة القدس أرضاً مباركاً ودياراً مقدسةً، لا يضام ساكنها، ولا يجوع أهلها، ولا يطرد اللاجئون إليها، ولا يظلم الضعفاء فيها.
 
استجار اليهودي يوسف بن رحاميم، الذي جاء من أوروبا ومعه جمعٌ من اليهود، يحملون أموالهم وحليهم، وذهبهم ومجوهراتهم، بالعربي المسلم  عبد ربه خليل بن إبراهيم، الذي كان يسكن حي الشيخ جراح، وهو الحي الراقي الذي بناه المسلمون قبل قرابة ألف عام، وأطلقوا عليه اسم "حي الشيخ جراح"، تيمناً بحسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي، طبيب السلطان صلاح الدين الأيوبي، وقد كان حياً راقياً يزدان بالمباني الجميلة والأشجار الوارفة العالية، والمثمرة الجميلة الزاهية، ويتصف بالحداثة والعمران، شأنه شأن حي القطمون والأحياء الأخرى المجاورة، التي تميزت عن أحياء القدس الأخرى بجمالها ونظافة شوارعها، وبحدائقها وبساتينها، وبالخدمات المميزة التي تتوفر فيها ويستمتع بها سكانها.
 
رحب الفلسطيني عبد ربه خليل باللاجئ اليهودي يوسف بن رحاميم ومن معه، ووافق أن يؤجره قطعةً من أرض حي الشيخ جراح المقدسية مدة 99 عاماً، وفق نظام "التحكير" العثماني، الذي كان يسمح بالتأجير طويل المدى في مدينة القدس، ولكنه يمنع بيع الأراضي فيها للأجانب، وكان الوافدون اليهود إلى المدينة المقدسة يعدون أجانب ويخضعون للقانون العثماني، الذي حد من استيلائهم على الأراضي المقدسية، في الوقت الذي كانوا يملكون فيه المال والقدرة على الشراء والإغراء.
 
بقي اللاجئون اليهود يعيشون إلى جانب الفلسطينيين في حي الشيخ جراح، ضمن عقد الإيجار القانوني، يؤدون الأجرة السنوية بانتظامٍ، وكانوا يلقون من سكان الحي معاملةً طيبة، ولا يشعرونهم خلال إقامتهم بالغربة المُرة، إلى أن وقعت حرب عام 1948، واحتل الإسرائيليون الشطر الغربي من مدينة القدس، وبعد أن فشلوا في احتلال حي الشيخ جراح المطل على الجامعة العبرية، هرب السكان اليهود منه، خوفاً من تعرض الفلسطينيين والأردنيين لهم بالثأر والانتقام، حيث خضعت المدينة لنظام فرزٍ ديني وقومي حاد، فلم يبق في الشطر الغربي سكانٌ فلسطينيون، كما رحل السكان اليهود من الشطر الشرقي للمدينة، واستمرت المناوشات العسكرية بين الأحياء العربية واليهودية.
 
قامت الحكومة الأردنية التي كانت تدير الضفة الغربية والقدس بعد حرب عام 1948، في العام 1956 بإسكان قرابة مائتي عائلة فلسطينية من المهجرين جراء الحرب في منطقة كرم الجاعوني، وكانت تنوي تمليكهم البيوت التي سكنوها، إلا أن حرب النكسة عام 1967 حالت دون ذلك، حيث خضعت القدس كلها للاحتلال والإدارة العسكرية الإسرائيلية، وبدأت حملات مصادرة الأراضي والتوسع والاستيطان، إلا أن سكان كرم الجاعوني في حي الشيخ جراح بقوا متمسكين بحقوقهم، مقيمين في بيوتهم، وثابتين على أرضهم، يرفضون كل محاولات إخراجهم منها عنوةً أو اتفاقاً.
 
أخذ أحفاد اليهود اللاجئين الذين جاء بهم يوسف بن رحاميم إلى حي الشيخ جراح، يطالبون بالاستيلاء على البيوت التي كان آباؤهم يشغلونها إيجاراً، ويسكنون فيها مؤقتاً بموجب عقدِ إيجارٍ، وأجبروا عن طريق المحاكم الصهيونية سكانها بدفع الإيجار السنوي لهم، رغم أن عقدهم الأصلي "التحكير" كان قد انتهى، وآلت الأرض حكماً وقانوناً إلى ملاكها الشرعيين الأصليين، إلا أن الإسرائيليين اليهود تكاثروا على الفلسطينيين بقوتهم العسكرية، ومحاكمهم الجائرة وقضائهم المسيس المنحاز، وعمدوا إلى إخراج السكان الفلسطينيين عنوةً وقهراً، وإجبارهم على الخروج منها بقوة الجيش والشرطة وقرارات الحكومة.
 
تلك هي قصة حي الشيخ جراح الذى آثرَ أهله الكرامُ إغاثة الملهوفين وإكرام اللاجئين، والإحسان إلى الهاربين الخائقين، لكن لسوء حظهم أنهم أكرموا أناساً لا يستحقون الكرم، ولا يستأهلون المساعدة، وعملوا خيراً مع جبلةٍ عفنةٍ وفطرةٍ مريضةٍ وطبيعةٍ خبيثةٍ لا تعرف غير الحقد والمكر، والنصب والغصب والكسب الحرام، ولكن هذا الباطل لن يدوم، وهذا الظلم لن يسود، ويوماً ما سيبوء الشر بأهله، وسيعود الحق إلى أهله، تلك هي سنة الله في خلقه، وحينها سيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ سينقلبون.
 
بيروت في 20/2/2022

 

****

 

Pour acheter le dernier ouvrage littéraire publié par « elfaycal.com » dédié aux écrivains arabes participants:
« Les tranchants et ce qu’ils écrivent! : emprisonné dans un livre » veuillez télécharger le livre après achat , en suivant ce lien:
رابط شراء و تحميل كتاب « الفيصليون و ما يسطرون : سجنوه في كتاب! »
http://www.lulu.com/shop/écrivains-poètes-arabes/الفيصليون-و-ما-يسطرون-سجنوه-في-كتاب/ebook/product-24517400.html

رابط تصفح و تحميل الديوان الثاني للفيصل: شيء من الحب قبل زوال العالم

https://fr.calameo.com/read/006233594b458f75b1b79

*****
أرشيف صور نصوص ـ في فيديوهات ـ نشرت في صحيفة "الفيصل
archive d'affiches-articles visualisé d' "elfaycal (vidéo) liens روابط
https://www.youtube.com/watch?v=M5PgTb0L3Ew

‎ـ تبرعوا لفائدة الصحيفة من أجل استمرارها من خلال موقعها
www.elfaycal.com
- Pour visiter notre page FB,et s'abonner si vous faites partie des 
défendeurs de la liberté d'expression et la justice cliquez sur ce 
lien: :https://www.facebook.com/khelfaoui2/
To visit our FB page, and subscribe if you are one of the defendants of 
freedom of expression and justice click on this 
link: https://www.facebook.com/khelfaoui2/
Ou vous faites un don pour aider notre continuité en allant sur le 
site : www.elfaycal.com
Or you donate to help our continuity by going to the site:www.elfaycal.com
https://www.paypal.com/donate/?token=pqwDTCWngLxCIQVu6_VqHyE7fYwyF-rH8IwDFYS0ftIGimsEY6nhtP54l11-1AWHepi2BG&country.x=FR&locale.x=
* (الصحيفة ليست مسؤولة عن إهمال همزات القطع و الوصل و التاءات غير المنقوطة في النصوص المرسلة إليها .. أصحاب النصوص المعنية بهكذا أغلاط لغوية يتحملون

مسؤوليتهم أمام القارئ الجيد !)

 

آخر تعديل على الإثنين, 21 شباط/فبراير 2022

وسائط

أعمدة الفيصل

  • Prev
19 تشرين1/أكتوير 2023

حولنا

‫"‬ الفيصل‫"‬ ‫:‬ صحيفة دولية مزدوجة اللغة ‫(‬ عربي و فرنسي‫)‬ ‫..‬ وجودها معتمد على تفاعلكم  و تعاطيكم مع المشروع النبيل  في إطار حرية التعبير و تعميم المعلومة‫..‬ لمن يؤمن بمشروع راق و هادف ‫..‬ فنرحبُ بتبرعاتكم لمالية لتكبير و تحسين إمكانيات الصحيفة لتصبح منبرا له مكانته على الساحة الإعلامية‫.‬

‎لكل استفسارتكم و راسلوا الإدارة 

القائمة البريدية

إنضم إلى القائمة البريدية لتستقبل أحدث الأخبار

Faire un don

Vous pouvez aider votre journal et défendre la liberté d'expression, en faisant un don de libre choix: par cartes bancaires ou Paypal, en cliquant sur le lien de votre choix :