wrapper

الخميس 16 ماي 2024

مختصرات :

بقلم : صلاح المكاوي ـ مصر



  قصة قصيرة: الجو يبدو صحوًا بعد انصرام يوم باردٍ ملبّدٍ بالغيوم وأمطار صنعت صنيعها بالشوارع فصارت أشبه بالبِرَك في قرية ريفية بسيطة ؛ منازلُها لا تتجاوز الطابقين يعلو معظمها أسوارٌ مُحكمةٌ من روث البهائم قد صُنع بطريقةٍ متقنة ، تجاورها أكوامٌ من الحطب والقش ، تتلوّى أزِقَّتُها كالثعابين لتنتهي إلى شارع المدرسة الذي يضيق حينًا ويتّسع آخر ،

يكاد الشارع يخلو من المارة سوى (سعيد) الذي يعلو كتفي أمه مُحتضنةً ساقيه المرتخيتين على صدرها بيدٍ ، وباليد الأخرى تتحسّس الجدران متخذة منها عكازًا كي لاينفرط في الطين عقدُها الثمين ( غلامها المُعاق ) الذي اعتاد على هذه الركوبة ذهابًا إلى المدرسةٍ وإيابًا منها ، تجرجرُ ثوبها خلفها ولا أحد يأبهُ لها ، تلوكُ بأقدامها في الطين حافيةً ، تترنّحُ حينًا وتعتدلُ حينًا آخر ، (سعيد) يُطوّق رأسَ أمه ، يحتضنُها وكتبَه ، ما أثقل الحمل على الظهر وما أقساه في الصدر!
تكاد تقع ولكن خوفها على (سعيد) يجعل من أصابع أقدامها المتجمدة من البرد أوتادًا في الأرض ، تغرسُ واحدةً وتنزِعُ أخرى ، تتلاحق أنفاسُها ، يعلو وينخفضُ صدرها ، يخفِقُ بشدةٍ قلبُها ، يشعرُ سعيد ، يحاول النزول ؛ لتلتقطَ أنفاسَها لكنها تأبى وتتجلّد إلى أن تصلَ إلى الدار ؛ منزل مبنيٌ بالطوب اللبن في نهاية زقاقٍ طويل قد أكل عليه الزمان وشرب ، الجيرانُ ألزمهم الشتاءُ دورَهم ، يلتفُّون حول مواقدهم ، وعلى بابٍ خشبيٍّ خفيضٍ طرقت أم سعيد بكلتا يديها ، هرول زوجها (عم محمود) يتعلّق في الباب ليفتحه فقد امتدت إليه يد الشتاء لتسقيه بعد ظمأ صيفٍ طويل حتى تمدد وانتفخ ، يحُكُّ الرجلُ يديه ، ينفخ فيها مُستدفئًا ؛ فقد تسلل البردُ إلى جسده الواهن فكسا شفتيه زُرقةً ووجهه شحوبًا.
تضع الأم سعيدًا برفق ، تأخذُ نفسًا عميقًا ، تستلقي على الحصيرة هُنيهة لتستدعي بعض الراحة بعد معركتها مع الطين ، ثم تنتفضُ قائمة لتصعد سلمًا خشبيًا وفوق رأسها طبق معدني مضعضع ، تشمر يدها وتغمسها في جرّةٍ كبيرة لتخرجَ قطعةً من الجبن المُعتّق ومن نظيرتها بعض المخلل من قرون الشّطةِ وأوراق الكرنب ، تنتزع بعض أعواد الحطب ، تنزل مسرعة ، تشعل النار ، تضع الطبلية ، تحتضن خديجةُ بعضَ أرغفة الخبز الجاف ، تطرحُها على الطبلية ، يلتهم جميعهم الطعام في نهم ، يتسلل الدفءُ إلى أجسادهم : الأبوين وخديجة ، والصغيرين أحمد وعليّ ، يسرقهم النوم فيستسلمون له سوى سعيد فقد غالبه مُنتفضًا يتأرجح مُتكئًا على الجدار مُمسكًا بالطبلية ، يندسُّ في كومة من الكتب متخذًا ضوءه من لمبة الكيروسين ،لايأبه ببرد الشتاء ولاتؤلمه معركة الأمعاء ؛ فلم يبق إلا أيامٌ قلائل على الامتحان، شخير الأب يُعانق السطور، الطين العالقُ على أقدام أمِّه يزيد همَّه ،الصغار يتزفزفون تحت غطاءٍ بُنيٍّ مُهلهل قد تكوّموا تحته ، خديجة تحلُم بقُرطٍ ذهبيٍّ ليحلَّ محل الخيط الذي سلخ أذنيها ، عم محمود يحلم باستخلاص الجاموسة من شريكه ، يرمقهم سعيد بعينين بائستين ، يقرأ صفحة ويحلم صفحة ؛ يحلم لأبويه وإخوته ، يُحدِّث نفسه، يمنيها: أنت الكبير ياسعيد، ولكن مازلت صغيرا، يطبطب على ساقه قائلا : والإعاقة؟! وما الإعاقة؟! مثلى الكثير اعتلوا المناصب وحققوا النجاحات.
أغلق سعيد باب الأحلام مؤقتًا ، انكفأ على الكتب يأكلها ،يشربها علّه يجد ضالته ، يجري ريقُه يشعر بالبرد يزيل الحُرقة من حلقه ، لم يدر بنفسه .. صوت الأذان يعانق نسيم الفجر ، يبشر بالخير ، يوقظ والده ، والدته تحلب الجاموسة ثم يسحبها عم محمود إلى الحقل ليروي الأرض فالساقية قد تكون شاغرة في هذا الوقت ، مازال الصغار نائمين يحلمون ، يمصمصون شفاههم ثم يحلمون ، بم يحلمون ؟ ربما بشيء من الحلوى ، فليحلموا وليحلم سعيد .
تدور الساقية في الحقل ويدور سعيد في ساقية الامتحانات ،
الأرض تطفئ غُلّتها ، وسعيد يطفئُ لهيب الحلوق.
نجحت يا أبي .. رويتُ الأرضَ ياسعيد .
أول الشهادة الإعدادية يا أبي ..
تحتضنه أمه ، يذوب في ثناياها ، يقتاتُ من حناياها ،
الصغار يفيقون من حلمهم ، يقفزون ، يصفقون سنأكل الحلوى..
خديجة تتحسس أذنيها وتنتزعُ خيطًا كم أدمى شَحْمَتيْها!
ترغرغ عينا سعيد بعبرتين لامعتين ، يُغمضهما فتسقطان على خدّيْه ساخنتين ثم يشرق ُوجهُه وتعلوه ابتسامةٌ يملؤها عزمٌ وإصرارٌ أكيدان.


****

‎طالعوا الصفحة الإجتماعية للصحيفة و اشتركوا فيها إن كنتم من ناصري الكلمة الحرة و العدل:
‏: https://www.facebook.com/khelfaoui2/


- Pour visiter notre page FB,et s'abonner si vous faites partie des défendeurs de la liberté d'expression et la justice cliquez sur ce lien:

آخر تعديل على الإثنين, 22 كانون2/يناير 2018
المزيد في هذه الفئة : « ‎نوى يجتاحني عشق سرمدي »

وسائط

أعمدة الفيصل

  • Prev
19 تشرين1/أكتوير 2023

حولنا

‫"‬ الفيصل‫"‬ ‫:‬ صحيفة دولية مزدوجة اللغة ‫(‬ عربي و فرنسي‫)‬ ‫..‬ وجودها معتمد على تفاعلكم  و تعاطيكم مع المشروع النبيل  في إطار حرية التعبير و تعميم المعلومة‫..‬ لمن يؤمن بمشروع راق و هادف ‫..‬ فنرحبُ بتبرعاتكم لمالية لتكبير و تحسين إمكانيات الصحيفة لتصبح منبرا له مكانته على الساحة الإعلامية‫.‬

‎لكل استفسارتكم و راسلوا الإدارة 

القائمة البريدية

إنضم إلى القائمة البريدية لتستقبل أحدث الأخبار

Faire un don

Vous pouvez aider votre journal et défendre la liberté d'expression, en faisant un don de libre choix: par cartes bancaires ou Paypal, en cliquant sur le lien de votre choix :