wrapper

السبت 18 ماي 2024

مختصرات :

عبد الكريم ساورة

 

ابراهيم شاب عاطل عن العمل، يستيقظ كل صباح باكرا يلبس ملابسه بسرعة، لايتناول فطوره، يأخذ كيسا بلاستيكيا أسودا ويغادر بسرعة، بهمة ونشاط كبيرين يقضي غرضه ويعود مسرعا ، يصعد إلى سطح المنزل، فيقوم بإخراج رؤوس الدجاج  ويقوم بتوزيعها بالتساوي على العديد من القطط التي يقوم بتربيتها أكثر من عشر سنوات

 

كنت في كل مرة التقي بإبراهيم، أسأله بسخريتي المعهودة " مازال معفى عليك الله من تعليف القطط ؟ " فيجيب وهو يبتسم كعادته : " العمل الوحيد الذي أتقنه في هذا العمر من حياتي البئيسة هو إدخال الفرحة على هذه القطط ". 

يبدو جليا أن ابراهيم يقوم باصطياد السعادة بطريقته الخاصة، فهو عندما يقضي معظم وقته في اللعب مع صغار القطط، ويغسل للبعض منهم ويدفن في كل مرة واحدا عندما يتعرض للقتل، فهو لاشك يشعر بالفرح والسعادة وهو يقوم بهذا العمل الذي نراه جميعاكل أبناء الحيمضيعة للوقت والهروب من واقع وحقيقة الحياة والاندماج في التفاهة " .

ابرهيم أعرفه جيدا، فهو يبدو رجل قاس في مشاعره، لايلتفت لأحد من الجيران، يدخن كثيرا مند أن تم إطلاق سراحه من الاحتجاز لذا جبهة البوليساريو- قضى 13 سنة رهن الاحتجاز في مخيمات تندوف، أصدقاؤه محدودون على رؤوس الأصابع، وأغلب الأوقات عندما نجالسه وذلك بالصدفة، لايتوقف يحكي عن بطولاته في الحرب، وفي كل لحظة يخرج " سبسي " ورزمة صغيرة من البلاستيك محشوة ب – " كيفْ " فيشرع في ملأ السبسي وهو يشعر بالانتشاء

قائلا : " لا أعرف كيف تتذوقون الحياة وأنتم لاترتشفون هذه العشبة السحرية "

كانت الحياة بالنسبة لإبراهيم هي الثلاثي المثير: " تسمين القطط، وتدخين السبسي، والحكي عن عوالم الحرب " ، وكثيرا ما كنا نحاول في بعض الجلسات استدراجه ليحكي لنا عن مغامراته مع النساء، عندما نشعر بالضجر والتكرار من نفس الحكايات عن علاقاته مع الرشاشات والمدافع وعن عدوه السريع في رمال الصحراء، وكان يرد علينا بنوع من الحزم : " الجندي جندي وليس زير نساء، والحرب ياأصدقائي لاتعرف الرحمة، إما أن تنتصر وتقتل العدو أو تنهزم ويقتلك العدو"، وكنا نلاحظ جميعا وهذه ليست المرة الأولى أن ابراهيم يسرقه الحديث وهو يتحدث بإسهاب كبير عن ماعاشه من معاناة وعذاب أليم فترات احتجازه وسجنه بسجون العدو المرعبة، وفجأة يتوقف عن الحديث، وينهض مهرولا وهو يقول : القطط...القطط..القطط.....

كان ذلك اليوم، يوم الاربعاء لن أنساه ماحييت، أول مرة أقف مشدوها وأنا أرى ابراهيم يبكي، يبكي بحرقة كبيرة، اقترب مني وقال لي : " أتعرف ياصديقي لم أبك ولم تنزل قطرة واحدة عندما تم احتجازي، وكنت أصرخ بكل ما أوتيت من قوة عندما كان يتم تعذيبي رفقة المحتجزين، ولم أنبش ببنت معلومة للعدو، كنت أشعر بالألم يقطع كل أوصالي ولكنني لم أبك يوما، لإنني كنت أعتبر نفسي مقصرا في مهمتي أنا والمسؤولين على فيلقنا، ولهذا كنت أعرف أنني سأؤدي الفاتورة لوحدي  وأعرف أن المسؤولين كانوا يتقلدون المناصب العليا والأوسمة على حساب احتجازنا، ومع ذلك لم أكن أعر الأمر أي اعتبار، لأن الجندية هي مهنة الموت بامتياز وعندما يتم احتجازك في سبيل الوطن يصبح الموت شرفا عظيما . في لحظة، توقف عن الحديث، وبدأ يتحرك هنا وهناك كمن ضاع منه شيئ ثمين، ثم عاد وقال بصوت المهزوم : " من هذا المجرم الذي قتل لي أولادي الأربعة، ماذا فعلت هذه القطط المسكينة لتموت غدرا ؟ ألهذه الدرجة الإنسان عدواني ؟ فنحن كنا نموت ونقتل من أجل قضية من أجل تراب من أجل أرض من أجل كرامة شعب كان يضع كل ثقته فينا ، فهؤلاء المجرمون يقتلون قططا أبرياء من أجل ماذا يارب ؟ أهناك شيئ أبشع من القتل من أجل لاشيء ؟

في الحقيقة كانت تلك المرة الأولى أرى فيها ابرهيم يفقد صوابه، واتزانه، يتحرك في كل الاتجاهات، لم يستوعب الأمر ولا يعرف ماذا يفعل، لايريد أن يصدق أن فلذات أكباده قد تعرضن بالفعل للغدر، لم أصدق أن ابرهيم كان يحب هذه القطط بهذه الدرجة ؟ وتساءلت مع نفسي : هل يمكن للإنسان أن يحب حيوانا بهذا الجنون ؟ وماذا ياترى يحقق من أرباح في الحياة من خلال هذا الحب ؟

مر شهر كامل على تلك الحادثة، لم يظهر لإبراهيم أثر، عرفت من بعض الأصدقاء أنه دخل في حداد، فقررت بعد تردد كبير أن أزوره وهي مناسبة لأواسيه في مصابه، وقلت مع نفسي ربما يبدو لنا الأمر سخيفا بعض الشيء من وجهة نظرنا، أن يحزن رجل كل هذه المدة على أربعة قطط، ربما لأننا تعودنا في الوطن العربي على الموت بالمئات أو ربما بالآلاف للبشر ولم يعد يحرك فينا أي شيء، أصبحنا نستفيق وننام على جثة الموتي من الأطفال والشيوخ ولم نعد نشعر بأي قشعريرة، ربما تورمت لحومنا وقلوبنا، وربما فقدنا أي إحساس بالآخر، لم نعد نشعر بأن الآخر القريب منا والبعيد يموت فعلا، وهل فعلا لازلنا نحمل صفة الآدميين ؟

استقبلني ابراهيم بوجه عبوس، عانقته بحرارة، فابتسم بصعوبة وقال لي : أنت الوحيد الذي زارني ليسأل عني، الناس جميعا بالحي يستهزؤون مني، لأنني أعطي وقتي وحياتي لهؤلاء القطط المساكين، ماذا في نظرك سأفعل ؟ الكل يعتبرني جنديا فاشلا لإنه تم احتجازي ؟ الدولة لم ترحمنا ولم ترد لنا اعتبارنا وهي الأخرى تعتبرنا أننا لم نكن جنود حقيقيين بل مجرد جنودا من ورق.

أرتشفَ قليلا من الشاي الذي أعده بالطريقة الصحراوية، ونظر إلي بتمعن كمن يريد أن يبوح بسر عظيم وقال لي : أنا لم أطرق يوما ما بابا من أبواب الدولة الموصدة، أتوسل أو أطلب تعويضا ، لأنني دائما أعتبر نفسي جنديا، والجندي هو الأول من يقف على باب السماء طلبا للإستشهاد وليس للصدقة وكل ما أريده في هذه الحياة هو أن يعلم الناس أننا لم نكن ننام ولم نكن نأكل ولم نكن نشعر بالطمأنينة من أجل أن ينام الجميع في سكينة تامة.

عم الصمت بعض الوقت، أصبت بالدهشة ، أول مرة أسمع ابراهيم يتحدث عن قضيته ويرافع عنها، أول مرة يُخْرِجُ أحداثه من القالب الحكائي المسرحي التراجيدي إلى شفافية الواقع المر، بصراحة وجدت نفسي متورطا في لعبة كبيرة جدا لم أكن أعيرها أي اهتمام، ولم أكن ملما بأحداثها وخلفياتها، كنت أنظر له دائما أنه مجرد رجل كان في يوم من الأيام " في العسكر " يقوم بوظيفة لايقوم بها سوى رجل لم يجد مايقوم به لمواجهة الحياة فارتمى إلى الجندية لينقذ نفسه من العطالة ومن الجوع، لكن ابراهيم وياللمفاجأة  كان مختلفا، كان يحب مهنته وذهب يحمل السلاح لأنه كان يؤمن بهذه المهنة حد النخاع ولكن الناس وأنا من كنا لانؤمن بهؤلاء الرجال الكبار وبما يقومون به من عمل عظيم، عظيم جدا.

نهض ابراهيم من مكانه وجلس بقربي وقال لي بنبرة فيها نوع من العتاب، أتعلم ياصديقي الناس لاترحم، ولاتترك رحمة الله تعبر، أنتم تقضون معظم الوقت بالمقاهي تتابعون مباريات كرة القدم بمتعة لامثيل لها، إنكم تقومون باصطياد سعادة مصطنعة لأن الملايين من الدولارات تخسر في سبيل ترسيخ هذه الفكرة من طرف الشركات الكبرى، إنهم يجعلونكم تصرخون ولا تتوقفون على الصراخ. أما أنا فلا أحسن اللعب سوى بالبندقية، وعندما نفذ الرصاص تحولتُ إلى اللعب والرقص مع قططي الجميلة، ملائكة الأرض، بفضلهم أصطاد السعادة، وياله من صيد ثمين، وبوجودهم أشعر بطعم الحياة، فهم الزوجة والأولاد الذين لم أرزق بهم في هذه الدنيا، فهل ترون هذا كثيرا علي ؟

ودعت ابراهيم، وسرت بين منازل الحي و كلماته القوية لازالت تتردد على مسامعي، وقلت مع نفسي : " بالفعل علينا أن نصطاد السعادة و بأي شكل من الأشكال، ولو بالرقص مع القطط ..." 

ــــــــــ

طالعوا الصفحة الإجتماعية للصحيفة و اشتركوا فيها إن كنتم من ناصري الكلمة الحرة و العدل:

: https://www.facebook.com/khelfaoui2/

@elfaycalnews

instagram: journalelfaycal

ـ  أو تبرعوا لفائدة الصحيفة من أجل استمرارها من خلال موقعها

www.elfaycal.com

- Pour visiter notre page FB,et s'abonner si vous faites partie des défendeurs de la liberté d'expression et la justice  cliquez sur ce lien: : https://www.facebook.com/khelfaoui2/

To visit our FB page, and subscribe if you are one of the defendants of freedom of expression and justice click on this link:  https://www.facebook.com/khelfaoui2/

Ou vous faites  un don pour aider notre continuité en allant  sur le site : www.elfaycal.com

Or you donate to help our continuity by going to the site:www.elfaycal.com

آخر تعديل على الثلاثاء, 05 آذار/مارس 2019

وسائط

أعمدة الفيصل

  • Prev
19 تشرين1/أكتوير 2023

حولنا

‫"‬ الفيصل‫"‬ ‫:‬ صحيفة دولية مزدوجة اللغة ‫(‬ عربي و فرنسي‫)‬ ‫..‬ وجودها معتمد على تفاعلكم  و تعاطيكم مع المشروع النبيل  في إطار حرية التعبير و تعميم المعلومة‫..‬ لمن يؤمن بمشروع راق و هادف ‫..‬ فنرحبُ بتبرعاتكم لمالية لتكبير و تحسين إمكانيات الصحيفة لتصبح منبرا له مكانته على الساحة الإعلامية‫.‬

‎لكل استفسارتكم و راسلوا الإدارة 

القائمة البريدية

إنضم إلى القائمة البريدية لتستقبل أحدث الأخبار

Faire un don

Vous pouvez aider votre journal et défendre la liberté d'expression, en faisant un don de libre choix: par cartes bancaires ou Paypal, en cliquant sur le lien de votre choix :