wrapper

السبت 18 ماي 2024

مختصرات :

الفيصل ـ نشرـ باريس:

إيمانا منها بأهمية الفكر و الإبداع الأصيل و المتميّز و الهادف البناء و الإختلافي في الرؤى لإثراء النقاش الثقافي الأدبي ككل، تواصل " الفيصل" بنفس النوايا و الإصرار لمد يد العون لكل من يفتقد إلى الصوت النزيه للتعريف بقدراته و ملكاته الإبداعية في مختلف الأجناس الأدبية العربيةو ها نحن نقدم بهذه التجربة في سبيل دفع متميزينا من الأدباء الذين غيبتهم من جهة ظروفهم الخاصة و من جهة أخرى سياسات التعتيم و الإبعاد و الإقصاء لخيرة أفراد المجتمع الذين يسكنهم هم واحد ، و هو الارتقاء بالمجتمع و تهذيبه و توعيته من خلال الإبداع و الفكر النيّر.

 

ـ انطلقت في السنة المنصرمة عملية تشجيع الأدباء و المبدعين العرب من كل قطر دون ميز أو حساسية في نشر تسلسلي لكل من يرغب لمخطوطات أعماله الروائية و القصصية و الشعرية، مصحوبا بغلاف من تصميم الفيصل بغية شد انتباه " دور النشر العربية" النزيهة التي تتأصّل و تتنصَّل متبرئة  من تلك الدور المشبوهة و الشبيهة بدكاكين " النشر للرداءة  و النصب و توزيع الاحتيال!". من مسلسل رواية " باب الشمس" للأديب المغربي " حسين الباز" إلى مسلسل "امرأة من الجنوب" للمبدع المصري " خالد الحديدي" جديرة بالقراءة و المتابعة من قبل القراء و المهتمين و كذلك المبدعين. ننشر حيثياتها في فصول (أجزاء)  تشجيعا للمبدع  " خالد الحديدي" ـ مصر ـ على ما يحاول من أفكار جديرة باحترام الجميع.ـ نتمني لكم قراءة ممتعة مع مسلسل مخطوط رواية "امرأة من الجنوب".

كل الحقوق محفوظة للفيصل و للمؤلف، و كل جهة تودّ استغلال هذا العمل الأدبي أو التقدم بعرض نشر لطبعه ورقيا أو إلكترونيا الاتصال بالصحيفة و بالمؤلف لمدارسة ذلك. 

الفيصل  ـ  باريس

****

رواية : "امرأة من الجنـــــ10 ـــــوب

بقلم: خالد الحديدي

ـ  الفصل العاشر:

كانت العصافير تملأ الجو تغريدًا في ذلك الصباح البهيج في مباني جامعة القاهرة العتيدة. سامي وهند يسيران في أروقة كلية الحقوق والسعادة لا تسعهما انتهاء المشوار الطويل وبرزت مشاريع العمل والزواج أمامهما طريق ممتد في معالم لا نهائية. جلسا في الكافتيريا الهادئة يحتسيان عصير الليمون وهم يتجاذبان أطراف الحديث في المواضيع التي تهم كل خطيبين. حدقت هند في قطعة الثلج التي كانت تدور في كوبها مع اهتزاز يدها المستمر

- انتهت أيام الدراسة السعيدة يا سامي.

وجه إليها سامي نظرة حب عميقة، إنها ابنة عمه وزواجه منها أضحى من البديهيات التي لا تقبل الجدل. منذ أن انتشله عمه مراد من قريتهم الكئيبة لم يعد مرة أخرى ولم تجدي توسلات أمه آنذاك بالعودة معها. كان يرسل خطابات من حين إلى آخر، سامي إنسان طموح. لكن طموحه من ذلك النوع الخطر الذي يجعله يتخلى عن كل شيء يربطه بالماضي. إن قريته كانت بمثابة الشوكة في أحلامه الوردية التي ظل يخطط لها وينسق لها سنين عديدة. كثيرًا ما كانت هند تناوشه بتذكيره لأهله وأسرته في القرية فيبين الامتعاض على وجهه ويعاتبها على ذلك

- نعم مرت الأيام كالخيال والأحلام. هند التي يعرفها جيدًا تطرقت إلى الموضوع الذي يكره سماعه.

- هل ستعود إلى أهلك؟

نظر إليها في عتاب.

- لم يعد لي أهل غيركم. لك أن تتصوري إذا لم يأخذني عمي مراد ماذا كنت أفعل الآن؟

ضحكت هند وهي تتخيل سامي يعمل في المزرعة أو يدفع أمامه قطيع من الأغنام إلى المراعي جوار البلدة.

- ولم تأتي أمك ثانية منذ أن رفضت الرجوع معها.

- أرجوك يا هند، دعك من هذا. أنا سامي صهر المستشار مراد، لا داعي تذكريني بذكريات قديمة ولت ولن تعود.

امضى الساعات يتحدثان في مشاريع زواجهما المرتقب، سيفتح مكتب محاماة مستغلًا نفوذ عمه الجبار حتى يصبح محامي كبير يشار له بالبنان ثم ينجبا أطفال أصحاء متعافين يقومان بتربيتهم بالطريقة الحديثة وهو في سبيل طموحاته المريضة ألقى جانبًا كل ثقافته الاشتراكية التي تلقاها في سنين طفولته الأولى على يد المرحوم زين، عندما كان زين يقوم بتعليم أهل البلدة من جميع الفئات مبادئ الأفكار الاشتراكية، ما زال سامي يتذكر كان لكلامه مفعول السحر في نفوس أهل البلدة اللذين يجلونه ويكبرونه. أفزع سامي خاطر آخر. تذكره عندما عاد أحمد ابن بشير الجزار بعد أن تخرج من جامعة القاهرة، جاء وهو يرتدي ملابس التخرج الغريبة التي جعلته أشبه بالخفاش، كانت مثار ضحك أهل القرية والأدهى من ذلك أن كلاب أبيه الجزار لم تعرفه فأخذت تطارده وتعوي خلفه وهو يجري ويتعثر وينظر إلى الجميع في ازدراء، تعثر وسقط على التراب وعضه أحد الكلاب جعله يتلقى علاج السعار المؤلم في مستشفى المدينة، ومنذ تلك الحادثة لم يعد ابدًا إلى البلدة. وأصبحت تلك الحادثة يتداولها أهل البلدة على كالأساطير. سامي لا يريد أن يلقي هذا المصير البشع.

فضل أن يسدل الستار على الماضي الذي راح وانطوى. لا بد أنهم في القرية قد نسوا سامي وبدأوا يتداولون أسطورة جديدة.

هروب شيماء مع كمال كانت الأسطورة الجديدة التي لاكتها السنة أهل القرية، كان أكثر الناس تأزمًا عدلي " ما فتئ أطفال القرية يطاردونه عند عودته من الخمارة التي تقع على هوامش البلدة، يتعلقون بملابسه ويقذفونه بالحجارة وهو يترنح ويصيحون خلفه" أين ذهبت ابنتك يا سكير؟ . لم يكن ينقذه منهم إلا زينب التي كانت تطارد الأولاد وتبعدهم وتأخذ بيده وتقون بتوصيله إلى البيت وتستمر في الدفاع عنه أمام زهرة التي تصب كل لعناتها عليه وتنعيه بأنه السبب في هروب شيماء. أما أشرف المسكين فقد آثر الصمت الرهيب الذي يبعث الرعب في قلب أمه زهرة، كانت تحس بأن أشرف يخبئ أمر ما. سر لا يريد إطلاعها عليه، في ذات مرة استيقظت زهرة من نومها مذعورة تبكي نهض أشرف وجلس جوارها، أخبرته أنها رأت في الحلم أن شيماء ماتت، طيب لها خاطرها وأخبرها بأن شيماء بخير وهذا الأحلام المزعجة ناجمة من الهواجس التي تنتابها، لم يشأ أن يخبرها بهروب شيماء مع كمال وهي تظن أنها غرقت في النيل. كما أنه لم يشأ أن يخبرها برسالة كمال التي وصلته على المدرسة في المدينة المجاورة. الرسالة كانت حافلة بالاعتذار، عرف شريف أنهما تزوجا. أخفى شريف كل ذلك عن والدته.

كأن المصائب تتوالى تباعًا، انفتح الباب الخارجي فجأة في تلك الليلة بشدة ودخل عدلي يترنح منهوك القوي وقد غطته الدماء وكانت ملابسه ممزقة، نظر إليهما شذرًا ثم اندفع نحو فراشه وانكفأ عليه وأخذ يئن. نظرت زهرة إلى زوجها في هلع واستوت جالسة واندفعت نحوه مع ابنها أشرف.

- رباه! من الذي فعل بك هذا؟

كان يهذى ولا يكاد يعي ما يقول، ركع أشرف عند رأس والده وأخذ ينظر إليه في اشفاق، أحضرت زهرة ماء وقطعة قماش أخذت تمسح بها الجروح العميقة التي كانت تغطي جسده. رفع عوني عينيه المخمورتين المحمرتين إلى وجه ابنه أشرف ثم مد يده الدامية وريت بأصابعه المرتعشة على شعر أبنه وردد في أنين خافت.

- بارك الله فيك يا ولدي. تخلى عني الجميع وبقيت أنت يا أشرف، لم أغضب عليك قط. اني راضي عنك تمام الرضا.

ملأت الدموع عينا أشرف ومد يده يربت على يد والده المضرجة بالدماء

- من فعل بك هذا يا أبي؟

رد والده في إعياء شديد

- رجال الأمن الذين حضروا من المدينة. القصة طويلة يا أبني وشرع يسرد القصة الغريبة. عندما كان عائدًا من الخمارة سمع صراخ زينب تقول أن رجال الأمن أخذوا ابنها خالد وعندما رأت عدلي أشارت له نحو سيارة الشرطة حيث ألقوا بأبنها بين أرجلهم. اندفع عدلي نحو السيارة يسب وهو ويلعنهم قفز اثنان من السيارة وأوسعوه ضربًا بالجنازير والهراوات والقوه على السلك الشائك المحيط بالمزارع، ظل عدلي يسرد القصة وأشرف يستمع إليه كالمشدوه.

- أخذ رجال الأمن خالد،

ما زال منظر زينب وهي تعدو خلف السيارة عالق في ذهني حتى الآن.

- خالد! إلى أين أخذوه يا ترى؟

-لا أدري يا ولدي تعسًا لهم. دعني أنام في الصباح سأخبرك بكل شيء فإني جد مرهق الآن وأشعر بآلام شديدة

نهض أشرف من عند والده وقد استغرقته القصة تمامًا حتى إنه لم يشعر بوالدته التي نهضت من جوار زوجها المثخن بالجراح واندفعت خارجة تبحث عن زينب. ظل أشرف ساهرًا حتى لحظات السحر الأولى. كان هذيان والده الجريح يطن في أذنه كوخز الإبر " إنها قادمة. نورا! جاءت لتأخذني، اني أراها بضفائرها الطويلة وجسدها الناحل ووجهها الملائكي كم انتظرتك طويلًا. وداعًا يا ابنائي. سامحوني. إن الحياة أشبه بالقطار وها أنا قد وصلت محطتي الأخيرة. ". أخذت أشرف غفوة، رأى فيها والده يسير بملابس بيضاء مع جمع من أهل البلدة اللذين غرقوا في حادث المركب الشهير، كانت معهم ايضًا ريا ترفل في أثواب كأميرات ألف ليلة وليلة، يتقدمهم ابن ستوته ناعي القرية يمتطي حماره الأسود اللون. كان الموكب يشق طريق محفوف بالورد والريحان وهم يرددون " الحمد لله الذي أورثنا الجنة". استيقظ اشرف فجأة على عويل نساء يصم الآذان، جاءت النهاية التي لم يكن يتوقعها، بل كان يرفضها تمامًا. مات عدلي متأثرًا بجراحه، يبدو أن الجراح كانت أكثر عمقًا مما يتصور، ظل يدور في ذهنه المشوش سؤال واحد "أحقًا مات أبي؟ ". كانت زهرة تجلس عن كثب تولول وقد تجمع حولها لفيف من نساء القرية الثاكلات، انزوى مازن ورباب في أقصى فناء المنزل يحملقان في ذهول في أفواج المعزين اللذين امتلأ بهم فناء المنزل. خرج الشيخ صالح من غرفة الميت بعد أن قام بغسله وأمر الرجال أن يحملوا الجثمان إلى المقابر إلى قبته البيضاء التي تقف شامخة عن أطراف البلدة. الشيخ صالح، لا أحد يعلم من أين اتى! ولكنه ظهر يومًا في البلدة. عدة أساطير اكتنفت ظهور المفاجئ في القرية. الرجل الغامض الطويل القامة الذي ينبعث من عينيه ضوء، شعره مجدول كالحبال ويسترسل على ظهره، التفت حول عنقه سبحة ذات ألف حبة، تتلوى كالثعابين في أثناء سيره المتوثب في طرقات البلدة. قالت: جدة أشرف لأمه. أن ابن ستوته شاهده يهبط من السماء عند شجرة الدوم في طرف المقابر، كان ذلك في أثناء تجواله ليلًا هناك، وشد ما أفزعه ذلك الضوء الذي ينبعث من عينيه، كما روت جدة أشرف أن الرجل شيد ضريحه عند طرف المقابر من الطين وزينه بجريد النخل. كان نزول هذا الرجل بركة على أهل البلدة، جاء في أيام رجال الحكومة أصحاب البدلات العسكرية المزينة بنياشين والأنواط الممتلئين حماسًا. حصلت البلدة على معدية حديثه تقلهم إلى البر الغربي وحصدت القرية محصولًا وفيرًا بفضل الطلمبات الحديثة. كان يقصده الرجال والنساء عند الكرب، يأتيه الرجل ملدوغًا من حية أو عقرب يمسح الرجل على مكان اللسعة ويتلو آيات من الذكر الحكيم فيشفى الرجل. تأتيه المرأة العقيم، يضع يده على رأسها ويذكر اسم الله، والله يفعل ما يشاء وتلد المرأة مولودًا ذكرًا أو أنثى، عندما تنتهي أيام النفاس تأتي المرأة بمولودها لينال بركة الشيخ صالح. وتمتد كراماته في علاج العمى والشلل، كان شيخ صالح من أولياء الله الصالحين. لا أحد يستطيع تقدير عمره الذي قد يمتد ألف عام، قالت زهرة أن الحاجة آمنة الأم الكبيرة عندما رأت الشيخ صالح في البلدة أصابها فزع شديد، قالت رأته في منامها في الآيام الغابرة عندما كانت حامل بأبنها الأول عوني، أخبرها بأن تسمي مولودها عوني وأن هذا المولود سيرحل عندما يكبر ويقيم في ديار أخرى وسيبارك الله فيه وفي ذريته. كما عرف أشرف من والدته أن الشيخ صالح هو الذي اسماه أشرف. كثيرًا ما يأتي الشيخ صالح للغداء معهم، الأولاد يفرحون لزيارته، يتراقصون حوله، يعبثون بأصابعهم الصغيرة في شعره المجدول كالحبال أو يتحسسون حبات المسبحة الطويلة وهو يبتسم في ود ناثرًا ذلك الضوء الذي ينبعث من عينيه في أرجاء المنزل.

طافت كل هذه الذكريات الحافلة بالشجن في مخيلة أشرف المكلوم وهو يرى الشيخ صالح يخرج من الباب إلى المقابر وقد انطفأ ذلك الضوء الغامض من عينيه. في مقابر البلدة تمت الصلاة على الجثمان، أم المصلين الشيخ صالح. ثم أمر بدفن الرجل داخل قبته الجميلة المطلية بالجير الأبيض. بعد انتهاء الدفن، جلس أشرف عند قبر والده يبكي بكاءًا حارًا، نعى فيه أشياء كثيرة، ماتت أشياء كثيرة داخله بموت ابيه الذي كان يحبه حبًا شديدًا نعى في والده بؤس الحال والتردي الذي اطبق عليهم من كل مكان بكى فيه مأساة زينب أم خالد التي قبعت جواره عند شاهد القبر. هرع عدد من رجال البلدة إلى أشرف وزينب ليأخذوهم معهم، نهض أشرف وتراجع يترنح وتشبثت زينب بشاهد القبر وتركها القوم داخل القبة تنوح وتلعن هذا الزمن الرديء الذي اخذ منها شبابها بموت زوجها زين واخذ منها عقلها بغياب ابنها خالدأخر شمعة تضيء بها دروب عمرها، عند طرف القرية التفت أشرف إلى القبة البيضاء التي تتلامع مع أشعة الشمس وودع والده الوداع الأخير بنظره تقطر أسى وردد في نفسه المكلومة "آه مسكين عدلي بنى قبره بنفسه"، طافت الذكريات مرة أخرى بعقل أشرف المشوش إلى ذكرى يوم اغبر حضر أحد ضيوف الحاج إبراهيم من المدينة، كان من رجال الدين السلفيين، خطب بعد صلاة المغرب، اخذ هذا رجل يخطب في الناس ويندد بالشرك الذي حاق بالبلدة، الشرك الذي يمثله ضريح الشيخ صالح الذي يقف في خجل عند طرف المقابر، استعان الرجل بكل آيات الويل والثبور وعظائم الأمور في بث الرعب في قلوب أهل البلدة البيضاء، اخذ يصرخ بكل ما أوتي من قوة حتى دب الذعر في قلوب بعض ضعاف النفوس وخرجوا بعد الخطبة وحملوا معهم المعاول والفؤوس وتبعهم عدد غير قليل من الأطفال اللذين لم يبلغوا الحلم بعد.توجهوا نحو الضريح. هناك وجدوه مستلقيا على الأرض شاخصًا ببصرة إلى السماء، وذلك الضوء المنبعث من عينية يشق الفضاء ويمتد إلى مواقع النجوم، تراجع القوم وقد أوجسوا خيفة لكنهم تماسكوا مرة أخرى إذا كان لازال صدى الخطبة المخيفة لرجل المدينة السلفي ذو الجلباب القصير يتردد في نفوسهم، اندفعوا كالسيل الجارف وانهالوا على الضريح تكسيرًا وتحطيمًا حتى ساووه بالأرض تمامًا. ظل الشيخ صالح راقدًا بلا حراك شاخصًا في تأمله الغريب في السماء كأنه لا يسمع ضرب المعاول وهمهمة الرجال والأطفال المذعورين، فاض الدمع من عينية وانطفا الضوء. انسحب الرجال بمعاولهم وأطفالهم دون أن يعيروا أدنى التفات إلى الرجل الراقد عن كثب، ولم تنتهي تلك الليلة عند ذلك، مر عدلي مروره المسائي على صديقه الشيخ صالح، بهت عدلي عندما لم يجد الضريح قائما، خيل له انه لازال به قليل من السكر ولكنه حدق بكل ما أوتى من قوة. فعلًا لا يوجد الضريح، لقد اختفى ذلك المعلم الذي يشكل بوصلة لعدلي في رحله عودته إلى البلدةلمح عدلي الجسد المسجى جوار الحطام، اندفع نحوه متوجسًا قبع جوار الرجل. وجده يتنفس وردد في نفسه "الحمد لله لا يزال على قيد الحياة

- ياشيخ صالح من فعل هذا؟

- أراذل القوم والأطفال فعلوها

- تعسًا لهم الملاعين. لا تبتئس يا عزيزي غدًا نبني لك قبة أكبر وارحب ونطليها بالجير الأبيض الذي يجعلها تتلامع مع ضوء الشمس والقمر ويراها القاصي والداني.

- بارك الله فيك يا عدلي.

ساعد عدلي صديقه على النهوض وقاده وهو يترنح إلى منزلهم. هناك حكى لأولاده كل شيء عن الفعلة المنكرة التي قام بها ضعاف النفوس في البلدة وفي الصباح حمل عدلي أدوات البناء واخذ معه ابنيه أشرف وسامي وأخذ يسير في طرقات القرية وينظر إلى أهلها في احتقار وتحدي، استغرق بناء القبة الجديدة ستة أيام وفي اليوم السابع تم طليها بالجير وزينها أشرف بآيات قرآنية وعاد الشيخ صالح إلى ضريحه الجديد سعيدًا ووقفت القبة مرة أخرى شامخة متحدية أهل القرية ينظرون إليها في ارتباك بعد ان انحسرت أخر جرعة من الهوس شبعهم به رجل المدنية السلفي وأوصى عوني ولديه بأن لا تغفل لهم عينًا عن القبة مرة أخرى. عاد الشيخ صالح يمارس تطبيبه لأهل البلدة وعادت المياه إلى مجاريها. كل هذه الذكريات ناء بها ذهن أشرف المكلوم على فقد أبيه حتى وصل مع المعزيين إلى المنزل والكل يدعو له بالصبر والسلوان وان لله وأنا إليه راجعون

مضت الأيام ثقيلة وترك غياب عدلي فراغًا موحشا في المنزل الكئيب الذي خيم عليه الصمت الحزين وقد امتدت أطراف المأساة إلى مازن ورباب اللذان كانا يملأن، البيت عبثًا وضجيجًا، جلسا منزويين في ركن بعيد، جلس أشرف أمام أمه التي كانت تعد له حقيبة السفر. لقد طفح الكيل ألان وقررت زهرة أن تبدأ معركتها مع الطغيان أخرجت المستندات التي آخذتها خلسة من منزل الحاج إبراهيم دستها في الحقيبة، أخبرت ابنها بعنوان عصام في مصنع الأسمنت في اسيوط. كان أشرف في طريقه إلى القاهرة ليخبر سامي وعمه بوفاة عدلي وكانت زهرة قد قطعت الأمل في عودة ابنها الضال سامي

في ذلك الغروب الحزين وقفت زهرة عند شاطئ النيل تودع ابنها أشرف الذي كبر ألف عام، اندفع أشرف إلى المعدية لنقله إلى البر الغربي، أخذ أشرف يلوح لأمه وهي تلوح له حتى غابت المعدية في الظلام الذي يلف المكان ثم استدارت ممتطية حمارها الهزيل تحت أشجار النخيل المتيبسة. من خلف الأشجار لمحت زينب الذي ذهب عقلها تجري بين الأشجار تنوح وتندب ابنها الغائب، كان صوتها موحشًا يمزق السكون، أصبح نواح زينب سيمفونية اعتاد سماعها أهل البلدة فظلوا يتحسرون لحالها وعاجزين عن مد يد العون لها، حتى الحاج إبراهيم رغم نفوذه الكبير في الحكومة لم يمد لها يد العون وهي تنوح عند بابه كل يوم في طريقها إلى المقابر حيث اعتادت النوم جوار قبر عدلي. اضحى الموتى أجدى من الأحياء وهي تفضل الجلوس بجوار مقبرة عدلي التي تكن له كل الاحترام والتبجيل ولم تنسى موقفه النبيل وانه فقد حياته من أجلها. ظلت زهرة تحمل لها الطعام في المقابر وزينب لم تكن يومًا امرأة عادية، هي وأسرتها الصغيرة تجسد تاريخ مصر الذي لم يكتب، الجوع والإرهاب والموت هو الثالوث الذين طحنت رحاه هذا الشعب الأصيل

(يتبع)

ـــــــــ

  طالعوا الصفحة الإجتماعية للصحيفة و اشتركوا فيها إن كنتم من ناصري الكلمة الحرة و العدل :

https://www.facebook.com/khelfaoui2/

@elfaycalnews

instagram: journalelfaycal

ـ  أو تبرعوا لفائدة الصحيفة من أجل استمرارها من خلال موقعها

www.elfaycal.com

- Pour visiter notre page FB,et s'abonner si vous faites partie des défendeurs de la liberté d'expression et la justice  cliquez sur ce lien: : https://www.facebook.com/khelfaoui2/

To visit our FB page, and subscribe if you are one of the defendants of freedom of expression and justice click on this link:  https://www.facebook.com/khelfaoui2/

Ou vous faites  un don pour aider notre continuité en allant  sur le site : www.elfaycal.com

Or you donate to help our continuity by going to the site:www.elfaycal.com

آخر تعديل على السبت, 16 شباط/فبراير 2019

وسائط

أعمدة الفيصل

  • Prev
19 تشرين1/أكتوير 2023

حولنا

‫"‬ الفيصل‫"‬ ‫:‬ صحيفة دولية مزدوجة اللغة ‫(‬ عربي و فرنسي‫)‬ ‫..‬ وجودها معتمد على تفاعلكم  و تعاطيكم مع المشروع النبيل  في إطار حرية التعبير و تعميم المعلومة‫..‬ لمن يؤمن بمشروع راق و هادف ‫..‬ فنرحبُ بتبرعاتكم لمالية لتكبير و تحسين إمكانيات الصحيفة لتصبح منبرا له مكانته على الساحة الإعلامية‫.‬

‎لكل استفسارتكم و راسلوا الإدارة 

القائمة البريدية

إنضم إلى القائمة البريدية لتستقبل أحدث الأخبار

Faire un don

Vous pouvez aider votre journal et défendre la liberté d'expression, en faisant un don de libre choix: par cartes bancaires ou Paypal, en cliquant sur le lien de votre choix :